( الحافظ سعد الدين الحارثي الحنبلي (ت ٧١١هـ) رحمه الله تعالى ، وجزء لطيف نفيس من تساعياته بعنوان "مجلس من عوالي يزيد بن هارون" )
الحمد لله الذي ألقى في قلوب التراثيين حب المخطوطات ، فكانت من أعظم الأسباب الحافظة لها ، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه .
أما بعد : فإنه من أسعد اللحظات ، وأَمتع الساعات عند من حُبِّب إليه شراء الكتب والمخطوطات : الحصول على كتاب نادر ، وقضاء ساعات الليل القصيرة برفقته .. والحمد لله الذي مَـنَّ علي ببعض تلك الساعات ..
(سلامٌ على تلك الأيام السالفة ، والساعات المساعفة ، فلقد كنّا في عيش أحلى من عتاب الحبيب ، وأرق من شكوى دنف إلى طبيب ، لولا أنه أقصر من لحظة عاشق في حضرة رقيب) (١) !
إن طال ليلي بَعْدَكَ فَلَكَمْ بِتُّ أشكو قِصَرَ الليل مَعَك
ومن تلك الساعات القصيرة ، واللحظات الممتعة ، تلك الليلة التي وصلتني فيها بعض الأجزاء الحديثية المخطوطة .. فكان أول ما تناولته يداي منها : "جزء فيه مجلس من أمالي القاضي أبي الحسين عمر بن الحسن بن علي بن مالك الشيباني المعروف بالأُشْنَاني" ، بخط جميل كتبه بيده الحافظ إسماعيل ابن جماعة (ت ٧٧٦هـ) ، وقرأه عليه بجامع الأقمر : الحافظ محمد بن محمد بن أبي بكر بن عبدالعزيز المقدسي إمام الجامع الأقمر ، سنة ٧٦٩هـ .
وجاء بعده بخط الحافظ العراقي رحمه الله تعالى مثبتاً سماع عماد الدين من الرضي الطبري :
(( شاهدت على نسخة الشيخ رضي الدين الطبري من الجزء الرابع من الأغراب للنسائي سماع سيدنا الشيخ عماد الدين إسماعيل ابن شيخنا برهان الدين إبراهيم بن عبدالرحمن ابن جماعة للجزء المذكور على الشيخ رضي الدين إبراهيم بن محمد الطبري المذكور بسماعه له من بهاء الدين ابن الجميزي بسنده ، وذلك في ذي الحجة سنة تسع عشرة وسبعمئة بمكة المشرفة .
نقله عبدالرحيم بن الحسين )) .
وبعدها كتب إسماعيل ابن جماعة ما سمعه من الشيخ رضي الدين إبراهيم الطبري المكي رحمه الله تعالى في حجته مع والده رحمهما الله تعالى سنة ٧١٩هـ .
وهي إضافة مهمة في ترجمته رحمه الله تعالى .
وللعلم فهذا الجزء أعني مجلس من أمالي الأشناني يوجد منه نسخة ثانية في الظاهرية بخط الحافظ يوسف بن شاهين رحمه الله تعالى .
وهذا كله مفرح بحق ، ولكن زاد فرحي عندما اكتشفت جزءاً نادراً في آخره ، وهو مجلس من عوالي يزيد بن هارون رحمه الله تعالى للقاضي سعد الدين مسعود الحارثي الحنبلي (ت ٧١١هـ) رحمه الله تعالى ، وهذا الجزء من تساعيات الحافظ الحارثي رحمه الله تعالى ، إذ بعد كل حديث يقول : تساعي صحيح ، ثم يخرجه .
وهذا المجلس من مسموعات الإمام سراج الدين أبي حفص الدمنهوري الغزي رحمه الله تعالى ، وهو بخطه الحسن .
وقد أملى الحارثي رحمه الله تعالى هذا المجلس سنة ٧٠٨هـ في الجامع الحاكمي ، قال أبو حفص الدمنهوري :
(( أخبرنا الشيخ الإمام العلامة قاضي القضاة أبو محمد مسعود بن أحمد بن مسعود بن زيد الحارثي قراءة عليه وأنا أسمع بالجامع الحاكمي في الثاني والعشرين من ذي القعدة سنة ثمان وسبعماية )) .
وقد حضر مجلس إملائه عدد من العلماء المعروفين ، كمجد الدين الزنكلوني الشافعي (ت ٧٤٠هـ) رحمه الله تعالى ، وهو صاحب "تحفة النبيه في شرح التنبيه" ، وكان من أصحاب العــــلامة مسعود الحارثي ، وكذلك حضر المجلس العــــلامة تقي الدين السبكي ، والحافظ الكبير قطب الدين عبدالكريم الحلبي صاحب شرح سيرة عبدالغني المقدسي ، وهذا المجلس بقراءته على الحارثي ، وغيرهم .
ذكر ذلك الحافظ محمد بن علي ابن أيبك السروجي رحمه الله تعالى في آخر الجزء ، ونَقَلَ طبقة السماع من خط العــــلامة تقي الدين السبكي ، قال رحمه الله :
(( آخر الأحاديث المسموعة لشيخنا الإمام سراج الدين أبي حفص الدمنهوري .. مجلس من عوالي يزيد بن هارون للحافظ أبي محمد مسعود بن أحمد بن مسعود الحارثي رحمه الله ، والحمد لله وحده .
سمع هذه الأحاديث على مخرجها الشيخ الإمام شيخ الإسلام قاضي القضاة سعد الدين أبي محمد مسعود بن أحمد بن مسعود ابن زيد الحارثي ، بقراءة الإمام قطب الدين أبي محمد عبدالكريم بن عبدالنور بن منير الحلبي ، الجماعة مجد الدين أبو بكر بن إسماعيل بن عبدالعزيز السنكلوني ، وشهاب الدين أحمد بن أحمد بن الحسين الهكاري ، وعمر بن محمد بن علي الدمنهوري ، وآخرون ، وعلي بن عبدالكافي بن علي بن تمام السبكي ، ومن خطه نقلت ، وصح في اثنى عشر ذي القعدة سنة ثمان وسبعمائة بالجامع الحاكمي بالقاهرة ، وأجاز لكل منهم ما يرويه ، والحمد لله وحده .
نقله ملخصاً من خط السبكي بعد المعارضة بخط مخرجه .. العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن علي بن أيبك السروجي عفا الله تعالى عنه )) .
وآثار هذا الإمام قليلة نفيسة ، منها أمالي خرجها لنفسه ، وهذا الجزء واحد منها ، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله : (( وخرج لنفسه أمالي ، وتكلم فيها على الحديث ورجاله وعلى التراجم ؛ فأحسن وشفى )) .
فهو جزء نادر من عوالي هذا الإمام الحافظ سعد الدين الحارثي الحنبلي ، قُرِءَ عليه في جامع الحاكم ، وهذا الجامع بني في زمن الفاطميين ، وهو ينسب إلى الحاكم بأمر الله عليه لعنة الله ، وقد تهدم بعضه بسبب الزلزال في سنة ٧٠٢هـ ، فأعاد ترميمه ركن الدين بيبرس الجاشنكير ، وجعل له عدة أوقاف بناحية الجيزة وفي الصعيد وفي الإسكندرية ، تغل كل سنة شيئاً كثيراً ، ورتب فيه دروساً أربعة لإقراء الفقه على مذاهب الأئمة الأربعة ، ودرساً لإقراء الحديث النبوي ، وجعل لكل درس مدرساً وعدة كثيرة من الطلبة .
فرتّب في تدريس الشافعية قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعي ، وفي تدريس الحنفية قاضي القضاة شمس الدين أحمد السّروجي الحنفي ، وفي تدريس المالكية قاضي القضاة زين الدين علي بن مخلوف المالكي ، وفي تدريس الحنابلة قاضي القضاة شرف الدين الحراني ، وفي درس الحديث الشيخ سعدالدين مسعوداً الحارثي (٢) ... وغيرهم في جميع الفنون ، مما يدل على إزدهاره بالعلم والعلماء !
وهذا الإمام هو الحافظ مسعود بن أحمد بن زيد بن عياش الحارثي البغدادي ، ثم المصري ، قاضي القضاة ، سعد الدين ، أبو محمد ، الفقيه الحنبلي .
ولد سنة ٦٥٢ أو ٦٥٣هـ .
وسمع من الرضي بن البرهان ، والنجيب الحراني ، وابن علّاق ، وابن الفرات ، وأحمد بن سلامة الخياط ، وغيرهم كثير .
وقرأ بنفسه ، وكتب بخطه الكثير . وخرّج لجماعة من الشيوخ معاجم ، منهم : الشيخ شمس الدين بن أبي عمر ، والأبرقوهي ، وصفي الدين المراغي ، وغيرهم .
وتفقه على ابن أبي عمر ، وبرع وأفتى .
وخطّه جميل ، قال الذهبي في "المعجم المختص" ص٢٨١ :
(( وخطّه مليح متقن )) .
وقال ابن رجب في "الذيل" ٣٨٨/٤ :
(( وكان يكتب خَطّاً حسناً ، حُلْواً مُتْقناً ، وخطّه معروف )) .
وقال الذهبي : (( وكان عارفاً بمذهبه ، بصيراً بكثير من الحديث وعلله ورجاله ، مليح التخريج ، من كبار أهل الفن )) .
وقال تقي الدين السبكي كما في مشيخته التي خرّجها له ابن أيبك الدمياطي :
(( وكان أحد الحفاظ ممن شاهدناه معرفة ، وإتقاناً ، وحفظاً ، وضبطاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وتفهماً في علله وأسانيده ، عالماً بصحيحه وسقيمه وعلله ومشكله ، وكان حسن الشكل ، مليح الهيئة ، فصيح العبارة ، حسن الكتابة ، مليح الضبط ، صحيح النقـل .
وصنف تصانيف مفيدة ، وخرّج تخاريج عديدة ، وأملى عدّة أجزاء ، واستمليت عليه ، وصحبته مدّة سنين ، وعلّقت عنه فوائد .. وكان معظماً للسنة وأهلها )) .
وقال أبو الفتح اليعمري في أجوبته على أسئلة الحافظ ابن أيبك الدمياطي ، ٢٠٥/٢ ، ونقلها ابن أيبك في ترجمة مسعود من مشيخة تقي الدين السبكي :
(( جمع من الفقه والحديث بين الطرفين ، واستولى في ذلك على أمد الشرفين . له أهلية الاستنباط والنظر ، والتحقيق التام بمعرفة السنة والأثر . أنفق في ذلك عمره أحسن إنفاق ، ولم يكترث بثروة ولا إملاق ، وجاب البلدان ، وجال ما شاء في هذا الشان ، وكتب بمصر والشام ، وغيرهما عمن أدرك من الرواة الأعلام ، فكان في ذلك محرز قصب السبق ، معدناً من معادن الحفظ والثقة والصدق ، لم أزل أستفيد من مذاكرته ، وأروي إذا ظمئت إلى العلم من بحر محاورته .. )) .
روى عنه ابن الخباز وهو أسن منه ، وأبو الحجاج المزي ، والبرزالي ، والذهبي ، وعبدالكريم الحلبي ، وتقي الدين السبكي ، ، وعز الدين ابن جماعة ، وغيرهم .
وآخر من حدث عنه بالإجازة الشيخ شهاب الدين ابن العز .
ومن آثاره :
١- شرح قطعة من كتاب المقنع .
قال ابن رجب في "الذيل" ٣٨٨/٤ : وشرح قطعة من كتاب المقنع في الفقه من العارية إلى آخر الوصايا ، وكلامه في الحديث أجود من كلامه في الفقه ؛ فإنه كان أجود فنونه . انتهى .
قلت : الموجود منه كتاب العارية ، والغصب ، والشفعة ، وقد طُبِعَ الكتاب في خمس مجلدات ، اعتمدوا في تحقيقه على نسخة فريدة محفوظة في دار الكتب المصرية ، رقم ٦ فقه حنبلي .
وذكره الحافظ ابن حجر ٢١٣/٤ ، والمرداوي في "الإنصاف" ١٥/١.
طبع في دار غراس ، طبعة لطائف لنشر الكتب والرسائل العلمية ، ١٤٣٤هـ - ٢٠١٣م .
٢- شرح بعض سنن أبي دَاوُدَ .
ذكره تقي الدين السبكي في "مشيخته" التي خرجها له ابن أيبك الدمياطي ، والذهبي في "تذكرة الحفاظ" ١٤٩٥/٤ ، وابن كثير في "البداية والنهاية" ٦٥/١٤ ، وابن رجب في "ذيل الطبقات" ٣٦٣/٤ ، وابن حجر في "الدرر الكامنة" ٣٤٨/٤ ، وقال : (( وشرح سعد الدين قطعة من سنن أبي داود كبيرة أجاد فيها )) .
٣- أمالي ، خرّجها لنفسه .
قال الحافظ ابن رجب في "ذيل الطبقات" ٣٨٨/٤ : (( وخرّج لنفسه "أمالي" وتكلم فيها على الحديث ورجاله وعلى التراجم ، فأحسن وشفى )) .
ومنها : "عوالي يزيد بن هارون" ، وهي ولله الحمد والمنة من محفوظات مكتبتنا المتواضعة، حفظها الله وزادها من فضله، آمين .
وقد ذكره الحافظ العراقي في "ذيل ميزان الإعتدال" ، ص٣٢٧ ، ونقله عنه الحافظ في "لسان الميزان" ٩٥/٨ .
ومنها : جزء من حديث الصوري ، خرّجها له الحارثي ، ذكره الحافظ ابن حجر في "المعجم المفهرس" ص٣١٢ .
٤- "معجم شيوخ الأَبرَقُوهي" ، تخريج الحارثي ، توجد منه نسخة ناقصة الأول في المكتبة الأزهرية ، قسم علم مصطلح الحديث ، برقم (١٣٢) (٩٠١٤) .
وقد طُبِعَ في مكتبة الثقافة الدينية ، ١٤٣٠هـ - ٢٠٠٩م .
٥- مشيخة شمس الدين عبدالرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي الحنبلي (ت ٦٨٢هـ) رحمه الله تعالى .
خرّجها له تلميذه مسعود الحارثي ، وجد منها الجزء السادس ، المكتبة الظاهرية ، المجاميع العمرية ، رقم ٣ ، (٣٧٤٠ عام) .
والجزء الثامن ، المجاميع العمرية ، رقم ١١٥ ، (٣٨٥١ عام) .
وكذلك جزء منه ناقص الأول والآخر يبدأ باخر الشيخ السادس ، وهو ابن طبرزد ، وينتهي بالشيخ الثاني عشر ، وهو أبو الفضل أحمد بن أبي عبدالله محمد بن سيدهم بن هبة الله بن سرايا الأنصاري الدمشقي . راجع المجاميع العمرية ، رقم ٩٤ ، (٣٨٣٠ عام) .
وذكره الحافظ ابن رجب في "ذيل الطبقات" ، والحافظ ابن حجر في "المعجم المفهرس" ص٢٠٤ ، وقال : في تسعة أجزاء .
٦- وخرّج مشيخة للقاضي صفي الدين خليل بن أبي بكر بن صدّيق المراغي الحنبلي (ت ٦٨٥هـ) رحمه الله تعالى .
قال الحافظ ابن رجب في "الذيل على طبقات الحنابلة" ٢٠٥/٤ :
(( وخرَّجَ له الحارثي مشيخة )) .
وذكره الذهبي في "السير" ٨/٢٣ ، والحافظ ابن حجر في "المعجم المفهرس" ص٢٠٤ .
جاء خزانة التراث : أن منه نسخة في مركز الملك فيصل ، رقم الحفظ : ب 235339 ، وقد طلبتها ، ولكن أخبروني بأن المخطوط غير متوفر بالمركز !
------------
(١) كتبها غياث الدين أبو مضر العراقي الكاتب ، ونقلها عنه الفُوَطي في "تلخيص مجمع الآداب" ج٤ ، القسم الثاني ، ص١٢٢٣ .
(٢) "المواعظ والإعتبار في ذكر الخطط والآثار" للمقريزي ١١٥/٤-١١٦ .
أ. شبيب العطيّة
مجموعة المخطوطات الإسلامية