التنصيص على ما وقع بطرر الأصل من إلحاقات خشية وهم النساخ والمحققين بالإقحام على الأصل ما ليس منه
الحمد لله وحده، وبعد:
وإن جرت عادة جُمهور المحققين على عدم التَّنبيه على اللحق الواقع بالأصول الخَطية، لكن الواقع العلمي يَشهد بأن هذا الصَّنيع مرجوح، وهناك حالات يكون التَّنبيه على اللحق من الأهمية بمكان عظيم، وثم الكثير من فُروق النُّسخ أو التَّعليقات المثبتة على طرر الأصل الخَطي ظنها النُّساخ من النَّص وأُقحمت به، وقد نبّه العديد من المتقدمين على ذلك لا سيما الخطيبُ البغدادي في «كتاب الموضح لأوهام الجمع والتفريق».
وأزعم أن جوتهلف برجستراسر من أوائل -وهو صاحب أقدم دراسة عربية محدثة في موضوع تحقيق النصوص- من نبه على هذه الظاهرة في محاضراته التي ألقاها في جامعة القاهرة سنة (1932)، وأتى على ذلك بالعديد من الأمثلة، وظاهرة إقحام النَّاسخ لما وقع على طرر الأصل من فروق نسخ فيظن الناسخُ أنها استدراك يجب إدخاله في المتن، إذا وضعه المحقق في الاعتبار أثناء التحقيق فإنه يُفيد في إخراج النص بشكل متقن، ويخلصه مما شابه من إقحامات، وقد نبهت على بعض المواضع في «كتاب الخلافيات» منها الرواية رقم (486).
وثم الكثير من الكتب المطبوعة شابها العديد من الإقحامات على نص المصنف لكون المحقق ظن أن المثبت على طرر الأصل لحق يَجب إدخاله في نص المصنف، ولما أغفل المحقق التنبيه على ذلك كما جرت العادة خفي على القارئ هذا الأمر، وأذكر أمثلة يستدل بها على الكثير :
الجزء السَّابع المطبوع من «الإكمال» لابن ماكولا، وهو من الأجزاء التي لم يعتن بها الشيخ المعلمي، والنسخة الطولونية المعتمدة في المطبوع منقولة عن نسخة الحافظ أبي القاسم ابن عساكر، وكان قد طررها بعشرات النقول عن الكتب المؤلفة في الرسم، ورقم على كل طرة برمز صاحب الكتاب، وقد رمز لكتاب «مشتبه النسبة» لابن الفرضي بالرمز (ض)، وقد أثبت الشيخ المعلمي هذه الطرر بحاشية المطبوع، لكن محقق الجزء السَّابع أقحم هذه الزوائد على أصل كتاب الأمير ابن ماكولا دون أدنى تنبيه، وبعض هذه المواضع تصل لعشرات التراجم!
وأيضًا من الكتب التي حصل بها إقحام من قبل المحققين الجزء الثالث من «التاريخ الكبير» للبخاري حيث أُقحم به العديد من النصوص المطررة بأصل نسخة أحمد الثالث، وقد نبه محقق الجزء الثالث من «التاريخ» على كون هذه الزيادات من طروق النُّسخ على حد تعبيره، وأقحم تراجم كاملة من طرر أصل نسخة أحمد الثالث، وهذه التراجم سبق البخاريُ ترجمتها فوهّم بعض المعاصرين -على بعض المنتديات العلمية- الإمام البخاري في كونه وقع في الجمع والتفريق، والشيخ المعلمي اعتنى بتصحيح «التاريخ الكبير»، والتعليق عليه ما عدا الجزء الثالث، وقد ساعده في ذلك جماعة من العلماء النَّدْوِيِّين.
وأيضًا «كتاب فتح الباب في الكنى والألقاب» لابن منده نسخته الخطية الفريدة مطررة بعشرات النقول عن «كتاب الأسامي والكنى» لأبي أحمد الكبير، وقد أقحمها المحقق على نص ابن منده؛ ظنها لحقًا يجب إدخاله بالأصل، وقد سبقني بعض الأفاضل في التَّنبيه على إقحامات كتاب ابن منده.
وأيضًا «جزء حديث الحُسين بن عيَّاش» المطبوع باسم «جزء هلال الحفار» وقفت على إقحامات بالنص المحقق كانت عبارة عن فروق نسخ بطرة الأصل ظنها المحقق لحقًا يجب إدخاله في الأصل، منها الرواية رقم (97)، وقد أقحم فيها نقلاً عن طرة الأصل قوله: «عن شعبة، عن محمد بن حجادة»، وقد نبهت على ذلك في «الخلافيات» الرواية رقم (5200) بما نصه: «هنا في المطبوع من «جزء هلال الحفار» زيادة: «عن شعبة، عن محمد بن حجادة»، وبالرجوع إلى المخطوط منه نسخة برنستون (ق15/ب) وجدت هذه الزيادة عبارة عن لحق على هامش الأصل بخط مغاير ولم يرمز له بصح، فظنها المحقق من النص فأدرجها، والله أعلم».
وهناك الكثير من نُسخ بعض الكُتب التي سارت في الآفاق فيها إقحامات كثيرة من النُّساخ، مثاله:
«كتاب الكمال في أسماء الرجال» للحافظ عبد الغني المقدسي، فقد شاب النَّص العديد من إقحامات النُّساخ، ولا يُمكن تلخيص نص المصنف إلا بالرجوع إلى النُّسخ العتق، والحافظ مُغلطاي كان لديه الكثير من النُّسخ العتق كنسخة الحافظين: أحمد بن محمد المقدسي، والصريفيني، وأصلين آخرين، وكان يرجع إلى مسودة المصنف التي رأها عند شيخه عبد الكريم.
وتعقب أشياء على أبي الحجاج المزي مثل قوله في ترجمة: «(د، س): حشرج بن زياد الأشجعي»: كان فيه -يعني الكمال- النخعي. وهو خطأ. فرده مغلطاي، وقال: «فيه نظر، من حيث إن باب حشرج ساقط في عدة نسخ من «كتاب الكمال» العتق؛ فعل الشيخ رآه في كتاب جديد غير منقح».
ومما نص عليه محقق «كتاب الكمال» أن مما زاده النُّساخ بطرر الأصل نُقول على «كتاب الثقات» لابن حبان، وهو ليس من مصادر الحافظ عبد الغني في كتابه فلا يَنقل عنه إلا نادرًا. كذا قال المحقق -حفظه الله- وأول القول يتعارض مع آخره.
ومن النُّسخ التي يُستعان بها على تخليص نص «كتاب الكمال» نسخة عبد الله الحلبي المؤرخة في العشرين من شهر شوال سنة تسع وسبعين وستمائة، وتُعد من أقدم نسخ «الكمال»، وقد قابلها العلامة ابن الحسباني على نسخة الحافظ شهاب الدين ابن فَرْح، وكتب ما عليها من الفوائد…، وصارت عمدة يُعتمد عليها، ويُرجع إليها، ويُعول عليها. ولم تعتمد بالمطبوع.
وهناك أيضًا إقحامات في بعض أصول «تقييد المهمل» للغساني، نسخة مكتبة الأوقاف ببغداد رقم (1061)، وقال الطابع: «تنفرد هذه النسخة بزيادات كثيرة في النص، ولعلها كانت في الأصل المنسوخ عنه تعليقات وحواشي، فجعلها الناسخ من صلب الكتاب… ومما يؤكد أنَّ هذه الزيادات ليست من المؤلف أنَّ فيها نقولاً عن «كتاب الإكمال» لابن ماكولا (ت475)». انتهى.
وأيضًا بعض نُسخ «كتاب المؤتلف والمختلف» لعبد الغني الأزدي، وقد نبه عليه طابع نشرة دار الغرب الإسلامي، بيروت.
ولم يقتصر فعل النُّساخ على إقحام بعض فروق النُّسخ التي على طرر الأصل، أو تعليقات بعض من تملكه، فقد وصلت إلى إقحام زوائد راوي الكتاب عن المصنف في أصل النَّص، وقد استظهرت ببعض النُّسخ العتق من «كتاب السنن» لابن ماجه، وهي بخط أبي العباس أحمد بن محمد بن أحمد الأسدآباذي. فوجدت زوائد أبي الحسن القطان راوي «السنن» كُتبت بطرر النُّسخة، بخلاف النُّسخ الأخرى فقد أُقحمت في صلب النَّص ومُيّزت في بعضها بعلامة الحمرة، وهذه الزوائد يسهل تخليصها من النص المصنف، وذلك عن طريق النَّظر فيما أسنده القطان عن غير ابن ماجه.
وتخليص زوائد رواة الكتب من الأهمية؛ لأن الكثير من المصنفين ألحقوا بعض الوهم بالمصنف ظنًا منهم أن هذه الزوائد من أصل كلام المصنف.. والله أعلم.