الأعداد الكاملة للنشرة الشهرية لمجموعة المخطوطات الإسلامية رابط متجدد

الأعداد الكاملة للنشرة الشهرية لـ (مجموعة المخطوطات الإسلامية) [رابط متجدد]

الأعداد الكاملة لـلنشرة الشهرية لـ (مجموعة المخطوطات الإسلامية) @almaktutat رابط متجدد https://mega.nz/#F!JugA2KDT!4nTvCdymnFy...

‏إظهار الرسائل ذات التسميات د. رابح مختاري. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات د. رابح مختاري. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 9 ديسمبر 2018

تعليق العلامة ابن العنابي على "المحلى" لابن حزم

تعليق العلامة ابن العنابي على "المحلى" لابن حزم

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين

هو العلامة محمد بن محمود بن محمد بن حسين الجزائري المعروف بابن العنَّابي(1189- 1267هـ)
كان عارفا بالمذهب الحنفي مُتقِنًا له، فقد كان قاضي الأحناف ومفتيهم بالجزائر قبل هجرته إلى مصر، ولما نفاه الـمُستدمِر الفرنسي استقرَّ بالإسكندرية وولاه محمد علي الإفتاء بهذه المدينة، فكان يوقِّع فتاويه:"مفتي السادة الحنفية بثغر الإسكندرية"(رائد التجديد الإسلامي محمد بن العنابي ص42، 45 للمؤرخ أبي القاسم سعد الله رحمه الله).
وقد صنَّف شرحا على"الدر المختار" لم يتمَّه، أثنى عليه الشيخ محمد بيرم ثناء عطِرا:"(رائد التجديد ص124، معجم أعلام الجزائر ص245).
وكان قد رحل إلى مصر قبل ذلك، وبقي مدة بالجامع الأزهر يُدرِّس ويُفيد، وانتفع به علماء الأزهر فضلا عن طُلابه كما قال عبد الحميد بك في تاريخه، وفي هذه المدة(سنة 1242هــ) صنَّف كتابه الفريد:"السعي المحمود في نظام الجنود"، وقد أجاز غيرَ واحد من معاصريه كإبراهيم السقا، وعبد القادر الرافعي ومحمد بيرم الرابع وغيرهم.
وكان كثير المطالعة، لا يكاد يُخلي الكتب التي يقرؤها من تعليقاته وتعقباته، كتعليقاته على كتاب"كعبة الطائفين" وغيره (انظر رائد التجديد ص32-33، أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر 1/164 ، تاريخ الجزائر الثقافي (2/176، 410)كلها لمؤرخ الجزائر أبي القاسم سعد الله رحمه الله).
نسخة المحلى:
هذه النسخة محفوظة بدار الكتب المصرية، وقفتُ على مصوَّرة منها، وتقع في ست مجلدات من بينها تكملة أبي رافع، إلا أنَّ المجلد الأول منها مفقود، ولم يُذكر اسم ناسخها، وقد نُسخت سنة (780هـ) كما في آخر المجلد الثالث، والمجلداتُ الأخرى وإن خلت من ذِكر التاريخ إلا أنَّ الظاهر أنها منسوخة في السنة نفسها أو ما قاربها، وهي نسخة مقابلة على الأصل المنقولة منه كما نصَّ على ذلك الناسخ في مواضع كثيرة بقوله:"بلغت مقابلة"، ويظهر ذلك أيضا من اللحق الكثير المثبت على هوامشها، فضلا عن إثبات فروق كثيرة من نسخة أخرى، كما أنَّ بها حواشيَ مفيدة وبعض التعقبات على ابن حزم، ومنها هذه الحواشي التي بخطِّ العلامة ابن العنابي رحمه الله.
وقد أوقف هذه النسخة الملك المؤيد شيخ على طلبة العلم بالمسجد الذي بناه بالقاهرة وعُرف بالجامع المؤيدي كما هو مرقوم على صفحة العنوان من جميع المجلدات الموجودة.
لا يتوفر نص بديل تلقائي.
وممَّن وقف على هذه النسخة العلامة المحقِّق حسن العطار، وكتب بخطِّه ما يفيد اطِّلاعه عليها، و قيَّد ذلك آخرَ المجلد الثاني كما في"فهرس دار الكتب المصرية"(1/551، ولم أطَّلع على ذلك لأن ورقات يسيرة من آخر المجلد الثاني ساقطة من النسخة المصورة)
الأدلة على أنَّ الحواشي المذكورة لابن العنابي:
هناك أربع حواشٍ لابن العنَّابي من ضمن الحواشي الكثيرة المرقومة على هامش هذه النسخة، ويدلُّ على ذلك أمور: 
1-أنها مطابقة لخطِّه مطابقة واضحة، وانظر نماذج من خطه في "الأعلام" للزركلي(7/89)، مجموع فيه إجازات من علامة الجزائر ابن العنابي(ص29-31).
2- أنه وقَّع ثلاث حواشٍ بعبارة:"كتبه محمد بن محمود الجزائري"، وهو اسمُ ابنِ العنابي، وبه يذكره الكتاني في"فهرس الفهارس" و عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ وغيرهما.
3- ومما يُستأنس به أنَّ هذه الحواشي تعقبات على ابن حزم في مسائل متعلقة بمذهب أبي حنيفة، وابنُ العنابي كان عارفا بالمذهب الحنفي مُتقِنًا له، وهو مفتي الحنفية في الجزائر والإسكندرية، ثم إنَّ هذه النسخة من"المحلى" أوقفها الملك المؤيد على جامعه واشترط عدم إخراجها منه، وهذا هو شرطه في جميع الكتب التي أوقفها على جامعه (انظر تاريخ المكتبات في العصر المملوكي للنشار ص207، 239)،وقد استقرَّ بها النوى-بعد وفاة ابن العنابي- بدار الكتب المصرية، فمصدرها ومستقرُّها مصر، وابنُ العنابي قد مكث بالقاهرة تسع سنوات، ثم بعد نَفيه من الجزائر استوطن الإسكندرية إلى أن توفي، فاطِّلاعُه على هذه النسخة في غاية الإمكان لا سيما مع ما عُرف به من كثرة الاطلاع، واعتنائه بكتبٍ قلَّ مَن يَلتفتُ إليها في ذلك الوقت كصحيح ابن حبان والأحكام لعبد الحق الاشبيلي وغيرهما (وانظر "مجموع فيه إجازات من علامة الجزائر ابن العنابي" ص14).
وهذه الحواشي كلُّها في المجلد الثاني، ولم أجد شيئا منها في المجلدات الأخرى، ويحتمل أن تكون له تعليقات في المجلد الأول المفقود –إن كان وقف عليه- فإن مَن وقف على كتابٍ يحرص غالبا على الاطلاع على المجلد الأول منه، والعلم عند الله تعالى.
1-الحاشية الأولى:
ذكر ابن حزم صفةً من صفات صلاة الخوف، وعزاها إلى أبي حنيفة وأصحابه إلا أبا يوسف فقد رجع عنها، ثم قال: "هذا عمل لم يأت قطُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم" (المحلى 3/241)
فتعقَّبه العلامة ابنُ العنابي بورود ذلك عن ابن عباس، فقال:
"بل قد جاء فيه أثر عن ابن عباس، رواه محمد بن الحسن في"الآثار"، كتبه محمد بن محمود الجزائري" (ق85)
لا يتوفر نص بديل تلقائي.
وقول ابن عباس هذا رواه محمد بن الحسن الشيباني في"الآثار"(195) قال: أخبرنا أبو حنيفة قال:حدثنا الحارث بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، ولم يسق لفظه بل قال:"مثل ذلك"، وأحال على رواية إبراهيم النخعي، وهي التي ذكرها ابن حزم ونسبها إلى مذهب أبي حنيفة(وانظر تهذيب الكمال 34/381، الإيثار ص58، وتعجيل المنفعة2/557 لابن حجر).
2- الحاشية الثانية:
قال ابن حزم تعليقا على أحد قولي أبي يوسف القاضي: لا تُصلَّى صلاة الخوف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"وهذا خلاف قول الله تعالى:"لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة"..." (المحلى 3/242).
فتعقَّبه ابن العنابي بقوله:
"بل لو فهِمت قوله تعالى:"وإذا[كنتَ فيهم] كما فَهِمَه لما أنكرتَه،فإنه[تعالى] علَّق الحكم فيها على كونه صـ[ـلى الله] عليه وسلم فيهم، والمـــ[ــــعلَّق على]شرطٍ يَنتفي بانـــ[ـــتِفائه]. كتبه محمد بن محمـ[ــمود الجزائري]" (ق86).
وما بين معقوفين غير ظاهر في النسخة المصورة فأكملته اجتهادا، ويوضحه قول العيني في بيان وجه استدلال أبي يوسف بالآية على مذهبه:" وذلك أنَّ الله تعالى قد خصَّ هذه الصلاة بكون النبي صلى الله عليه وسلم فِيهم، فإذا خرج من الدنيا عدم الشرط، وانتفاءُ الشَّرطِ يَستلزم انتفاءَ الـمَشروط"(نخب الأفكار 5/ 270).
لا يتوفر نص بديل تلقائي.

3- الحاشية الثالثة:
قال ابن حزم في المسائل المختلف فيها في صلاة العيدين:"ومنها التكبير، فإن أبا حنيفة قال: يكبِّر للإحرام، ثم يتعوَّذ، ثم يكبِّر ثلاث تكبيرات يجهر بها، ويرفع يديه مع كلِّ تكبيرة، ثم يقرأ..." (المحلى3/294).
فعلَّق العلامة ابن العنابي على هذا الكلام بقوله:
"هذا كذب على أبي حنيفة، فإنَّ الذي في كتب مذهبه أنه يُكبِّر، ثم يقرأ دعاء الاستفتاح"سبحانك اللهم"، فإذا فرغ منه كبَّر الزوائد. كتبه محمد بن محمود الجزائري"(ق124).
لا يتوفر نص بديل تلقائي.

وسُمِّيت هذه التكبيرات بالزوائد لزيادتها على تكبير الإحرام والركوع ( مراقي الفلاح 1/201).
وما ذكره ابن حزم هو مذهب أبي يوسف، وذكر صاحب"مجمع الأنهر"(1/95)-إن لم يكن وهِم في ذلك- أنها رواية عن أبي حنيفة، لكن المشهور في كتب الحنفية ما ذكره ابن العنابي عن أبي حنيفة أنَّ التعوُّذ تبَعٌ للقراءة فيكون بعد التكبيرات الزوائد(انظر تحفة الفقهاء1/128، الهداية للمرغيناني 1/49، المحيط البرهاني1/358، غنية المتملي ص304، حاشية ابن عابدين 1/490) 
وفي بعض كتب الحنفية حكاية الخلاف بين أبي يوسف ومحمد، ولم يذكروا قول أبي حنيفة(انظر البناية للعيني 2/190).
ولعلَّ عُذر ابن حزم فيما ذكر أنه كثيرا ما يعتمد في حكاية مذهب أبي حنيفة على الطحاوي، وقد ذكر الطحاوي أنه يتعوَّذ بعد الاستفتاح وقبل التكبيرات(شرح مختصر الطحاوي 2/151، وانظر رسائل الشيخ محمد بوخبزة ص75).
4- الحاشية الرابعة:
وقد خلت هذه الحاشية من توقيعها باسمه، لكنه خطُّه بلا ريب.
ذكر ابن حزم في كتاب الزكاة عند كلامه على نصاب البقر قول مَن ذهب إلى قياس البقر على الإبل لاشتراكهما في جملةٍ من الأحكام، ثم قال:"وأما احتجاجهم بقياس البقر على الإبل في الزكاة فلازم لأَصحاب القياس لُزومًا لا انفكاك له، فلو صحَّ شيء من القياس لكان هذا منه صحيحا، وما نعلم في الحكم بين الإبل والبقر فرقًا مجمعًا عليه..."( المحلى 4/99)
فعلَّق العلامة ابن العنابي على هذا الكلام بقوله:
"هذه رَقاعة، هيهات الإبل من البقر"(ق285)
لا يتوفر نص بديل تلقائي.
يشير إلى وجود فوارق بينهما تمنع من إلحاق أحدهما بالآخر في هذه المسألة، وإن اعترى عبارته شيء من القسوة.
والله تعالى أعلم والحمد لله رب العالمين.

د. رابح مختاري
مجموعة المخطوطات الإسلامية

الخميس، 9 أغسطس 2018

التأمُّل وأثره في إدراك الخلل وتصحيح النص

التأمُّل وأثره في إدراك الخلل وتصحيح النص
بقلم الشيخ د. رابح مختاري الجزائري

إنَّ التحقيق رياضة عقلية، مبدؤها دقَّة الاستشكال والتنبُّه لمواطن الخلل ومظانِّ الاشتباه، وغايتُها تقويم الأوَد وسدُّ الثُّلمة، وإنما يؤتي أكله بإدمان النظر، وطول الفحص وكثرة التنقيب، مع الاستعانة بمسبار الفَهم، ومحك النقد، وطول الرويَّة، فإنَّ العجلة مفتاح الزلل، وبَريد الخطل، وإنَّ الصواب إن آثرتَ الصبرَ عليه، ودبَّرتَ له نظرا بعد آخر أوشك فِكرك أن يهجم على حقيقته وأن يصل إلى غوره، وقد قالوا:"للقلب عين كما للبدن عين"، فعينُ القلب هي التي تبصر المعاني على حقيقتها وتنفذ إلى أعماقها.
 قال الحافظ ابن حجر:"من تأمل ظفر"
والتأمل المقصود هو التأمل على وجه التمام وتقليبُ وجوه الاحتمال وترداد ذلك مرة بعد أخرى إلى أن تبلغ كُنهَ العبارة، لا نصف التأمل الذي يحمل صاحبه على المسارعة إلى التخطئة بالرأي الفطير والنظر العابر، فلغة العرب بحر لا ساحل له، وأساليب العرب في كلامها دروب متشعبة لا يعرف مسالكها العجِل المَلول، فهما آفتان في طريق المحقِّق:  الركون إلى التقليد من غير إجالة النظر، والتجاسر على التخطئة قبل تمام التأمل.
قال العيني متعقِّبًا أحد العلماء تبع غيره على الوهم:"والآفة في مثل هذا من عدم التأمل والتقليد"(عمدة القاري 17/ 98)
وقال ابن الهمام:"مفاسد قلة التأمل مما يضيق عن الإحاطة به نطاق البيان"(فتح القدير 8/ 271).
وقال إبراهيم اللقاني:" :"قلة التأمل مفاسدها كثيرة"(قضاء الوطر ص508)
ومن أمثلة ذلك:
1- ورد في بعض كتب الإمام ابن دقيق العيد هذه العبارة:"ظاهر قراءة الخِرَقيِّ قوله تعالى:"وأرجلَكم" يخالف ما اقتضاه هذا الحديث وسائر الأحاديث المتضمنة للغسل..."
هكذا أثبتها المحقق:"الخِرَقيِّ"، وضبطها بالقلم أيضا، ولا يُعرف في القراء المشاهير مَن يسمى ب"الخرقي"، وقوله تعالى "وأرجلكم" قرأها بنصب اللام:نافع وابن عامر والكسائي، وقرأها بالخفض: ابن كثير وحمزة وأبو عمرو، واختُلف عن عاصم، فيُستبعد من ابن دقيق العيد أن يُغفل ذِكر القراء السبعة المشاهير، وينسب قراءة منها إلى غير مشهور، هذا أول ما ينبغي أن يَستوقف قارئ هذا النص، ثم يحاول بعدها تقليب الاحتمالات الممكنة لتصويب العبارة إلى ما يناسب السياق والمعنى، ومن ذلك أن تتقارب الكلمتان في الأصل حتى يُظن أنهما كلمة واحدة لاسيما إن كان الناسخ قد ترك إعجام الحروف وأهمل نقطها، وقد ذكر المحقق محمود الطناحي رحمه الله أنَّ من أسباب وقوع التصحيف:"قرب الحروف وبُعدها في الكلمة الواحدة، أو الكلمتين، فتهجم العين على الكلمتين، فتقرأهما كلمة واحدة، أو تلتقط جزء من الكلمة الواحدة، فتقرأه كلمة مستقلة" 
والذي يظهر أنَّ صواب العبارة:"قراءة الجَرِّ في قوله تعالى..."، فتصحفت"الجَـرِّ في" إلى:"الخِـرَقي"، وتمام كلام المؤلف(ابن دقيق العيد) يدلُّ على أنه تعرَّض لقراءة الجرِّ وما قد يُفهم من معارضتها للأحاديث الصريحة في الغسل، وقد ترتب على هذا التصحيف أن أثبت المحقق الآية بنصب اللام في "أرجلكم"، فضاع بذلك موضع الشاهد.
وقريب منه من حيث إنَّ التأمُّل يحمل صاحبه على إدراك خللٍ في السياق يدعوه إلى إجالة النظر وطول الفحص لتبيُّن وجه الصواب، ما وقع في الكتاب المتقدِّم عند ذكر الرواة عن أبي حازم سلمة بن دينار ، فقال:"روى عنه مالك والثوري وابن عيينة وسليمان بن بلال، وأبوغسان محمد بن مطرف، واسمه عبد العزيز"
وهذا غريب فقد ذَكر أنَّ أبا غسان اسمه"محمد"، فكيف يقول بعدها:"واسمه عبد العزيز"، وصواب العبارة:"وابنه عبد العزيز"، أي ممن روى عن أبي حازم:ابنُه عبد العزيز، وهو راوٍ معروف.
ويدل على هذا أن المؤلف(ابن دقيق العيد) إنما نقل هذا الكلام من"تقييد المهمل" للجياني، وهو فيه (2/ 551) على الصواب:"ابنه عبد العزيز".
والله تعالى أعلى وأعلم.

2- ومما يقع فيه الزلل أن يكون سياق الكلام مستقيما في الظاهر، ولكن بمراجعة المظان يتبيَّن وجه التصحيف الواقع في الأصل أو في قراءة المحقق، والمراد ما كان خطأ بَـيِّنًا، وليس ما له وجهٌ يصحُّ به.
ومثال ذلك ما يرد في كتب التراجم من نحو قولهم:"صاحب حديث كذا" أو "روى حديثا في كذا" ولا يذكرون نصَّ الحديث، بل يشيرون إلى موضوعه، فينبغي على المحقِّق أن يراجع مظانَّ هذا الحديث للتأكُّد من سلامة ما ورد في النص، و من سلامة قراءته ولا ينبغي أن يكتفي بمجرد وضوح العبارة في المخطوط واستقامتها في الظاهر، إذ قد يعتريها تحريف، وقد تسبق إلى ذهنه قراءة معيَّنة تكون مجانبةً للصواب.
ومن ذلك ما وقع في"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم(5/ 205/رقم:958) في ترجمة:"عبد الله بن يونس"، قال:"يُعرف بحديث واحد، روى عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حيث[ كذا وفي المصادر:"حين"] نزلت آية الملائكة..."
هكذا وقع في المطبوع:"الملائكة"، وكذا في نسخة كوبريلي(ق286/أ)، وهو كلام من حيث الظاهر مستقيم ومتلائم، ولكنه على التحقيق اعتراه تصحيف، والصواب كما في مصادر الحديث:"الملاعنة" وليس"الملائكة"، وقد روى هذا الحديثَ الشافعيُّ في"الأم" وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم وغيرهم وفيه:"الملاعنة"،وعند أبي داود: "المتلاعنين" وبوَّبوا عليه بما يدل على التغليظ في الانتفاء من الولد كما هو مدلول الحديث، وليس فيه ذِكرٌ للملائكة، وقد ذكر ابن أبي حاتم نفسه أن عبد الله بن يونس راويه يُعرف بحديث واحد، وقال عنه الدارقطني:"لا أعرفه إلا في هذا الحديث" (العلل10 /375، وانظر"بيان الوهم والإيهام"4 /472، تهذيب الكمال16 /337)، وهذا يدفع أن يكون له حديث آخر فيه ذِكر الملائكة.
ومما يؤيِّد هذا أن ابن الملقن أورد هذا الحديث في"البدر المنير"(8 /185) في كتاب اللعان، وذكر طرقه ثم قال:"وقال ابن أبي حاتم:عبد الله بن يونس يُعرف بحديث واحد عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر هذا الحديث[أي أشار إليه]، روى عنه يزيد بن عبد الله بن الهاد، سمعت أبي يقول ذلك"، وفي هذا إشارة إلى أن الواقع في نسخة ابن الملقن أو نسخةِ مَن نَقَل عنه ابنُ الملقن من كتاب"الجرح والتعديل" هو "الملاعنة" على الصواب، وانظر"عون المعبود" (6/ 251).
ويقرب من هذا المثال ما ورد في"التهذيب" لابن حجر(7/ 44 ط المعارف النظامية) في ترجمة"عبيد الله بن القبطية":"له في الكتب حديثان:أحدهما ....والآخر عند (م،د) في الخمس"
وقوله:"الخمس" تصحيف وصوابه:"الخسف"، وربما احـتمـل:"الجيش"، فإن الحديث رواه مسلم وغـيره من طــريق عــبيد الله بن القبطية قال:دخل الحارث بن أبي ربيعة وعبد الله بن صفوان وأنا معهما، على أم سلمة أم المؤمنين، فسألاها عن الجيش الذي يخسف به...الحديث، وهو بنحوه عند أبي داود، وقد اتفقت المصادر على أن حديثه في الجيش الذي يخسف به، وليس في الخمس.
قال البخاري في ترجمة"عبيد الله بن القبطية":"روى عنه عبد العزيز بن رفيع في الخسف"(التاريخ الكبير5/ 396، وانظر"التاريخ الأوسط"(1/ 142)، وكلام ابن حجر هنا اختصار لما أورده المزي من حديث ابن القبطية، وهو إنما أورد حديثين، الثاني منهما حديث أم سلمة في الجيش الذي يخسف به، ثم قال:"هذا جميع ما له عندهم"، ولم يورد له حديثا في الخمس.
وقد وقع في طبعة الرسالة من"التهذيب"(3/ 25):"في الخسف" على الصواب.

3- ومن ذلك أن يُنقل توثيق أحد الرواة عن شخص غير مشهور بتزكية النقلة، أو يُحكى رأي فقهي عن أحد لا يتردد اسمه في كتب الفقهاء، وهكذا في كل فنٍّ، فإن مثل هذا ينبغي أن يستوقف المحققَ النَّابه ليحرِّر اسم المنقول عنه حتى يتأكَّد من سلامته من التحريف وخلوِّه من التصحيف.
ومن أمثلة ذلك ما وقع في ترجمة(عبد الله بن صالح كاتب الليث) من"تهذيب التهذيب" لابن حجر(5 /260-ط المعارف النظامية) و(2 /356 ط الرسالة):"وقال أبو هارون الخريبي: ما رأيت أثبت من أبي صالح"
هكذا وقع في"التهذيب":"الخريبي"، وتبعه على ذلك غير واحد من المعاصرين فذكروا أبا هارون الخريبي ممَّن وثَّق عبد الله بن صالح.
فمن أبو هارون الخريبي هذا؟ إذ ليس هو ممن شُهِر بنقد رواة الآثار، فيبقى احتمال أن يكون من تلاميذ كاتب الليث أو ممن عاصروه والتقوا به لكني لم أجد مَن ذكره بهذا الاسم في الرواة عن أبي صالح كالمزي وغيره، فقوِي في النفس أن يكون وقع في اسمه تحريف، وتبيَّن بعد البحث أنَّ صوابه:"الـجِبْـريني" نسبة إلى"بيت جبرين" وهي قرية بفلسطين(انظر "الأنساب" لابن السمعاني 3 /189-190).
ثم راجعت نسخة خطية نفيسة من"التهذيب" فيها زيادات وإلحاقات بخط الحافظ ابن حجر نفسه فوجدت الاسم وقع عنده:"الجبريني" على الصواب(انظر ق58/ب).
ووجدت عند البيهقي في"الأسماء والصفات"(1 /590) روايةً من طريق أبي هارون إسماعيل بن محمد عن أبي صالح، وقال البيهقي عقبها:"وأبو هارون هذا هو إسماعيل بن محمد بن يوسف بن يعقوب الجـبـريني الشامي، يروي عن أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث"
فتبيَّن أنه صاحبنا، فهو شامي لأنه جِـبْـرِيني(وهي قرية من فلسطين كما تقدم وفلسطين من الشام)، أما"الخريبي" فنسبةً إلى"الـخُـرَيبة"، وهي محلة بالبصرة(انظر"الأنساب" لابن السمعاني 5/ 107)، فليست هي من الشام.
 وتـتَّـضح أهمية الأمر أكثرَ إذا علمنا أنَّ أبا هارون هذا مُـتَّـهَم شدَّد القول فيه غير واحد من الأئمة(انظر لسان الميزان 1 /432، وغيره).
وعلى هذا فقِس في كل ما تقرؤه من كتب التراث أو تستشهد به من نصوص العلماء.
قال العلامة الطناحي رحمه الله:"فعُدَّة المحقِّق الأولى هي الكتب في كلِّ فن، لأنه في كل خطوة يخطوها مع النصِّ مطالَب بتوثيق كلِّ نقل، وتحرير كلِّ قضية، بل إنَّ المحقِّق الجاد قد يبذل جهدا مضنيًا لا يظهر في حاشية أو تعليق، وذلك حين يريد الاطمئنان إلى سلامة النص واتساقه".

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

د. رابح مختاري
مجموعة المخطوطات الإسلامية