مزوِّر يرمي الجزء المزوَّر وسط مكتبة الشّيخ المحدِّث الرّاوي !
بقلم
جمال عزّون
أن يزوِّر شخص لوحة عنوان أو تاريخ نسخ أو خطّ علم مشهور ابتغاء بيع ما زوّر بثمن باهض .. فهذا شيء مفهوم، أمّا أن يزوّر خطّ راو مصنِّف، ويقلّده ويحاكيه للغاية، ويحبك أحاديث مكذوبة عن شيوخ معروفين روى عنهم ذاك الشّيخ المزوَّر عليه، ويدسّ المزوِّر بطريقة ماكرة الجزء الذي صنعه وحبكه وقلّد فيه خطّ الشّيخ ضمن مكتبته، فإذا ما رأى الشّيخ الجزء في مكتبته، وتأمّله عن كثب، وجد الخطّ خطّه، والشّيوخ المرويّ عنهم هم نفس شيوخه، فيحدّث الشّيخ بالجزء وينشر أحاديثه بين النّاس، فهذا ممّا يجلب الصّداع والحزن والأسى لمثل هذه الأفعال الدّنيئة، إنّه استغلال تزويري وقح لنشر الأحاديث الموضوعة ودسّها بين ثنايا مكتبة أحد الرّواة، والأمثلة على هذا الصّنيع في كتب الرّجال كثيرة من ذلك ما ذكروه في ترجمة أبي صالح عبد الله بن صالح المصري كاتب الإمام اللّيث بن سعد فقد كانت عند هذا الكاتب مناكير كثيرة من المرويّات عن شيوخه حتّى قال ابن حبّان في المجروحين 2/40:
(( وإنّما وقع المناكير في حديثه من قبل جار له ـ رجل سوء ـ سمعتُ ابن خزيمة يقول: كان بينه وبينه عداوة فكان يضع الحديث على شيخ عبد الله بن صالح، ويكتب في قرطاس بخطّ يشبه خطّ عبد الله بن صالح، ويطرحه في داره في وسط كتبه، فيجده عبد الله، فيحدّث به، فيتوهّم أنّه خطّه وسماعه، فمن ناحيته وقع المناكير )).
من المؤكّد أنّ أجزاء عبد الله بن صالح وكتبه المخطوطة كانت متناثرة على الأرض، شأن الباحثين اليوم إذا أنزلوا من رفوف مكتباتهم عددا كبيرا من المراجع، فتتداخل الكتب فيما بينها وتتشابك الأوراق والكراريس والأقلام، فاستغلّ جار السّوء هذا فرمى ـ عن سبق إصرار وترصّد ـ جزءه المزوّر ـ وسط هذه الكوكبة من الأجزاء والكتب، ولا أحدٌ رأى، ولا أحدٌ انتبه، لكن سبحان الله وكأنّ (كاميرات مراقبة) كانت مثبّتةً أمام نافذة مكتبة كاتب اللّيث، فرصدتْ هذه العمليّة التّزويريّة الماكرة، وشهدت على هذا المزوِّر بالجرم المشهود، وسجّل أهل الحديث ـ الذّابّون عن السّنّة الكاشفون كلّ وضّاع ومزوِّر ـ محضرا بالجريمة، وخلّدوا اسم صاحبها في الكتب.
قال أبو حاتم الرّازي في الجرح والتّعديل لابنه 5/87: (( الأحاديث التي أخرجها أبو صالح ـ يعني كاتب اللّيث ـ في آخر عمره التي أنكروا عليه نرى أن هذه ممّا افتعل خالد بن نجيح، وكان أبو صالح يصحبه، وكان سليم النّاحية، وكان خالد بن نجيح يفتعل الحديث ويضعه في كتب النّاس )).
عبر وعظات:
1 ـ المزوِّر رجل سوء كما قال ابن حبّان، والمزوّرون عامّة أهل مكر وشرّ وخداع وطمع وجشع وإيذاء، ساء دينهم فساءت أفعالهم.
2 ـ دسّ الأجزاء المزوّرة وسط كتب الشّيوخ وسيلة قديمة من وسائل المزوّرين، وواجب المؤلّفين والرّواة ضبط كتبهم ومكتباتهم كما هو الشّأن في ضبط صدورهم، والحذر من كلّ من يحاول الدّسّ عليهم بما ليس من كلامهم.
3 ـ تكفّل الله تعالى بحفظ السّـنّة النّبويّة، وسخّر أئمّة نقّادا كشفوا المزوّرين بأسمائهم، وأودعوهم سجنا مكينا يسمّى: سجن الضّعفّاء والوضّاعين.
4 ـ كاتب اللّيث صحب جاره ابن نجيح بسلامة صدر وحسن نيّة، لكن ابن نجيح عاداه وخدعه، ودسّ عليه أجزاء مزوّرة لينتقم منه، ويفسد عليه حديثه، فليس كلّ صحبة تستوجب السّلامة من المصاحَب.
5 ـ المزوِّر بارد القلب، فلم يأبه أن اختلق أحاديث عن رسول الله ، وحسب أن تزويرها باسم جاره كاتب اللّيث يعذره عند الله، وليس الأمر كذلك، فإنّ الكذب على الرّسول ليس كالكذب على سائر النّاس، وصاحبه مهدّد أن يتبوّأ مقعدا من النّار بسبب هذا السلوك التّزويري المشين.
6 ـ من المؤكّد أنّ ابن نجيح كانت بين يديه أجزاء صحيحة بخطّ جاره كاتب اللّيث، وكما هو شأن المزوّرين يتدرّبون أيّاما من أجل إتقان تزوير الخطوط والتّوقيعات حتّى تنطلي على من زوّرت عليه.
7 ـ التّزوير قد يتحوّل إلى مرض مزمن يتعذّر علاجه، وانظر إلى ابن نجيح لقد وسّع دائرة التّزوير لخطوط الشّيوخ الرّواة قال ابن حبّان: (( يفتعل الحديث ويضعه في كتب النّاس ))، إنّ متعته في هذا الدّسّ الماكر الواسع المتكرّر للأحاديث وسط كتب الرّواة، لكن هيهات هيهات، لقد كشف كلّ شيء دسّه ابن نجيح وأتباع مدرسته من أئمّة التّزوير.
8 ـ طبقات المزوّرين: عنوان كتاب مقترح، يرصد فيه أسماء من اتّهم بالتّزوير، وتكشف طرقهم القديمة الماكرة، ليتمّ توظيفها في العصر الحاضر لكشف سلالة الأقدمين من المزوّرين المعاصرين.
د. جمال عزّون
مجموعة المخطوطات الإسلامية