المنارات الثمانية الهادية
للناظر إلى جنة صحيح البخاري العالية
أ. عبد الرحيم يوسفان
مجموعة المخطوطات الإسلامية
المنارة الأولى:
«الجامع الصَّحيح» ثمرةٌ مباركة لجهود متراكمة لأهل العلم، كان فاتحتها التدوين الفردي للصحابة، وخاتمتها «صحيح البخاري» الذي نراه بين أيدينا، فهو ليس بِدعًا من المؤلفات.
المتأمّل فيه يرى أنه مؤسَّسٌ على أشهر المصنَّفات المتداولة في عصره كصحيفة همَّام بن منبِّه، وكتب المغازي والسِّير لعروةَ بن الزُّبير، وموسى بن عُقبة، والزهريِّ، و«الموطَّأ» للإمام مالك بن أنس برواياته المتعدِّدة، ومؤلَّفات اللَّيث بن سعد، وعبد الله بن المبارَك، وسفيان الثَّوريِّ، وحماد، والشافعيِّ، وعبد الرزَّاق، وصحيفة سعدان ومؤلَّفات شيوخه الذين أدركهم، كمسانيد كلٍّ من الحُميديِّ، والإمام أحمد، ومُسدَّد، والطَّيالسيِّ، وعبيد الله العَبسيِّ، وابن أبي شيبة، منتهيًا إلى الإفادة من كتب أقرانه وتلامذته فقد روي عن البخاريِّ رحمه الله قوله: (لا يكونُ المُحدِّثُ كاملًا حتَّى يَكتبَ عَن مَن هو فَوقَه، وعن مَن هو مِثلُه، وعن مَن هو دُونَه) من مثل الحافظِ الحُسَين القَبَّانيِّ الذي روى عنه في «الصحيح» الحديث (5680) ومثل عبد الله بن حماد الآملي صاحب «تاريخ بخارى»، وقد روى عنه البخاريُّ في «الصحيح» الحديث (3857).
لم يقتصر الصحيح على المؤلَّفات القائمة على الرِّواية الحديثيَّة، بل ضمَّ إليها كتب التفاسير، ومصنَّفات الآراء الكلاميَّة والفقهيَّة، ومؤلَّفات فنونِ اللُّغة والأدب، على اختلاف مدارسِها، وتعدُّد مذاهبها، وتنوُّع مشاربها، منتقيًّا وملخِّصًا مادَّتَها في عبارةٍ خاصَّة به، كافيًا المتلقِّيَ تعقيد النِّقاشات وتفاريع البحوث.
وعنوان كتابه يوحي بذلك حين أسماه: «الجامعُ المُسنَدُ الصَّحيحُ المختصرُ من أُمورِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وسُننِهِ وأيَّامهِ».
المنارة الثانية:
أنَّ البخاري تصدى للتأليف والتصنيف بعد أن استوت علومه وكملت لديه أدوات العلم، فالتَّصدِّي لتأليف كـ«الجامع» وفي ذلك العصر عصر الحفاظ الجهابذة عملٌ لا ينهَضُ للقيام به إلَّا إمامٌ جامعٌ متكاملُ المعرفة.
صرح الإمام عن ذلك بقوله: (ما جَلَستُ للحَديث حتَّى عَرَفتُ الصَّحيحَ من السَّقيمِ، وحتَّى نَظرتُ في عامَّةِ كتُب الرأي، وحتَّى دخلتُ البصرةَ خَمسَ مرَّاتٍ أو نَحوَها، فما تَركتُ بها حديثًا صحيحًا إلَّا كتبتُه، إلَّا ما لم يَظهَر لي). ويقول: (كتبتُ عن ألف شيخٍ وأكثر، عن كلِّ واحدٍ منهم عشرةَ آلافٍ وأكثرَ، ما عِندي حديثٌ إلَّا أذكُر إسنادَه). ويقول: (لم تكُن كتابتي للحديثِ كما كَتَب هؤلاءِ، كنتُ إذا كَتبتُ عن رجلٍ سألتُه عن اسمِه وكُنيتِه ونَسَبِه وحَمْلِه الحديثَ، إنْ كان الرَّجلُ فَهِمًا، فإن لم يكن؛ سألتُه أنْ يُخرِجَ إليَّ أصلَه ونُسْختَه، فأمَّا الآخَرون فما يُبالُونَ ما يَكتبون؟ وكيف يكتبون؟).
المنارة الثالثة:
تأليف الصحيح كان تلبية لحاجةٍ، وسدًا لثغرة، وتلبيةً لطموح أمَّة.
يحدِّثنا الإمامُ البخاريُّ رحمه الله عن الأسباب التي دفعته لتصنيف «الجامع الصَّحيح»، فيقول: (كنتُ عندَ إسحاقَ ابن راهُوْيَه، فقال لنا بعضُ أصحابِنا: لو جمعتم كتابًا مختصرًا في الصَّحيح لسُننِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فوقع ذلك في قلبي؛ فأخذتُ في جمع هذا الكتاب). ويقول: (رأيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في المنام، وكأنِّي واقفٌ بينَ يدَيه، وبيدِي مروحةٌ أذُبُّ عنه، فسألتُ بعضَ المعبِّرين، فقال: أنتَ تذُبُّ عنه الكذب. فهو الذي حمَلني على إخراج الصَّحيح).
المنارة الرابعة:
العناية العالية بكتاب «الجامع الصحيح» ظهرت بعد إتمام التأليف حوالي سنة (232) واستمرت إلى آخر أيام حياته رحمه الله.
ينقل لنا تلميذُه ووَرَّاقُه أبو جعفرٍ محمَّد بن أبي حاتمٍ الورَّاق حاله ليلًا فيقول: (كان أبو عبدالله إذا كنتُ معه في سَفَرٍ يجمعنا بيتٌ واحدٌ إلَّا في القَيظ أحيانًا، فكنتُ أراه يقُومُ في ليلةٍ واحدةٍ خمسَ عشرةَ مرَّةً إلى عشرين مرَّةً، في كلِّ ذلك يأخذ القَدَّاحةَ فيُوري نارًا بيده ويُسرِجُ، ثمَّ يُخرِج أحاديثَ فيُعَلِّمُ عليها، ثمَّ يضع رأسَه، وكان يصلِّي في وقت السَّحر ثلاث عشرة ركعةً يوتر منها بواحدةٍ، وكان لا يُوقظني في كلِّ ما يقومُ، فقلت له: إنَّك تَحمِل على نفسك كلَّ هذا ولا توقظني؟! قال: أنت شابٌّ، فلا أُحبُّ أن أُفسِدَ عليك نومَك).
وينقل لنا تلميذه وحاملُ لواءِ «جامعِه» محمَّدُ بنُ يوسُفَ الفرَبْرِيُّ حاله في ليلة من ليالي عمره فيقول: (كنتُ عندَ محمَّد بن إسماعيل البخاريِّ بمنزلِه ذاتَ ليلةٍ، فأَحصَيتُ عليه أنَّه قام وأَسرَجَ يَستَذكِرُ أشياءَ يعلِّقُها في ليلةٍ ثماني عشرةَ مرَّةً).
إن المطالع لنسخ «الصحيح» ومَن يقرأ ما نقل عن البخاري من فروق في رواية صحيحه ليعيش حال مصنفه من القلق العلمي والأرق المعرفي سعيًا من البخاري للكمال، فها هو يقول: (صنَّفتُ جَميعَ كُتبي ثلاثَ مرَّاتٍ).
إنَّ كثيرًا من تلك التصحيحات والتعديلات كان تعنُّ على بال الإمام البخاريِّ في أثناء مجلس إسماع الكتاب، فيذكرها لتلامذته النجباء إملاءً حسب نشاطهم، وواقع النسخ يجعلنا نجزم بأنَّ هذه الزيادات موزَّعةً بين الرُّواة الذين سمعوا منه الصحيح غيرَ متَّفقٍ عليها بينَهم ولا مجموعةً في نسخةٍ واحدةٍ من نُسخ «الجامع»، إنَّما كانت موزَّعةً بين نُسخ التلاميذ والنُّسخة الأمِّ.
المنارة الخامسة:
أنَّ الصحيح اطلع عليه كبار أئمَّة العلم في ذاك العصر الذهبي، عصر الجرح والتعديل وعلم العلل.
نُقل لنا عن العقيلي عن تلامذة الحافظ البخاري أن الإمام البخاري عرضه على الأئمة: ابن مَعينٍ (ت: 233)، وابن المَدينيِّ (ت:234)، والإمام أحمد ابن حَنبل (ت: 241) مستشيرًا، فأقرُّوه على حُسن تأليفِه، وبارَكوا جهدَه.
المنارة السادسة:
الجهود المتوالية في خدمة صحيح البخاري هي ثمرة لوعي عميق وإدراك كبير من أهل العلم والفضل بأنَّ كتابَ البخاري هو الحصنُ الأول في خدمة السنة النبوية المطهرة، والبوَّابةُ الكُبرى للدفاع عنها، التي يجب أن تنال حَقَّها من التَّدعيم والحِماية والرِّعاية والدِّفاع، فخدمته لا لذاته وإنما خدمة للسنة النبوية المطهرة.
المنارة السابعة:
معرفة منهجية الإمام البخاري في إخراج الحديث التي تقوم على أساسين مكينين:
اختبار صحة الرواية بجمع طرقها.
والانتقاء من مجموع ذلك الجمع ما وافق فيه الراوي غيره بعد مراجعة أصول روايته والنظر فيها.
فلم يكن من منهج البخاري التقميش دون تفتيش، ولا العناية بالسند بعيدًا عن النظر في المتن، يظهر هذا المنهج جليًّا بالشواهد والمتابعات التي يلحقها آخر الرواية التي يختارها في الصحيح.
المنارة الثامنة:
كل ما يثيره الطاعنون في صحيح البخاري باسم التجديد والبحث والتدقيق لا علاقة له من قريب ولا من بعيد بنقد جهابذة أهل العلم لحروف من صحيح البخاري.
فشتان بين حروف في علم العلل الدقيق العالي سطرها أمثال الدارقطني وبين ما يلوكه البعض من مطاعن أصولها كلام للمستشرقين الحاقدين الذين لا همَّ لهم سوى رمي أركان السنة المطهرة ولو بما يشين عقل الباحث الجاد.
هذه منارات ضعها بين عيني عقلك أخي الحبيب قبل الحديث عن صحيح إمام الدنيا الإمام البخاري رحمه الله
كتبه
خادم صحيح البخاري
عبد الرحيم يوسفان