عن الحافظ المزي وخطوطه على الكتب والأجزاء الحديثية
يتبوَّأ الحافظ أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبدالرحمن المزي (ت 742هـ) متبوَّأً رفيعًا في قائمة أعلام الحديث وعلومه، ويعرف له أهل الفن جهودَه العظيمةَ في سبيل ضبط كتب السنة النبوية، وتنقيحها، وتقريبها.
ومع أنه لم يصنِّف على سبيل التوجُّه والقصد سوى كتابين حديثيَّين، هما: (تحفة الأشراف)، و(تهذيب الكمال)، إلا أنهما بقيا مدار البحث والتحقيق على مدى سبعة قرون، وما زال الباحث في السنة النبوية مفتقرًا إليهما، ناهلًا منهما، صادرًا عنهما.
لكنَّ مِن غمص حق هذا الجبل الأشم أن يقتصر الدرس والتنويه على كتابيه المذكورين، فتراثه العلمي الحديثي أكبر منهما، وأوسع دائرة، ومن ذلك على سبيل المثال:
1- بحوثٌ في الرواة، والأحاديث، وأقوالٌ في أحوال شيوخه، ومتأخري المحدِّثين، وفوائدُ وتحريرات، منثورةٌ في كتب تلامذته وأصحابه ومَن بعدهم، ورُبَّما أُفردت في أجزاء لطيفة، كما في سؤالات السبكي والقطب الحلبي، التي ضمَّها مجموعُ كتبٍ في الحديث ومصطلحه وعلومه، بخط الحافظ البوصيري[1].
2- جهود كبيرة في جمع الكتب والأجزاء الحديثية، وسماعها، وإسماعها، والتعريف بها، وتحرير أسمائها، ومؤلفيها، ورواياتها، ورواتها. وقد كانت هذه الجهود من الركائز الرئيسة في بناء (التحفة)، و(التهذيب)، كما يعرفه المتأمِّل.
وليس من طريقٍ لإبراز هذه الجهود سوى سبر قيود السماعات، والعنوانات، والتعليقات، التي كتبها المزي بخطِّه على المخطوطات الحديثية، وغواشيها، وحواشيها، وجمع ذلك، وتحليله، ودراسته، فإن ذلك كفيلٌ بتجلية الصورة، وتوضيح معالمها. ولا بد من الاعتراف بأن هذا أمر شاق، لا ينهض له إلا لوذعي حاذق مطَّلع.
وقد ظهرت مؤخرًا بوادرُ اهتمامٍ من الباحثين والمعتنين بإشهار ذلك، ونشر النماذج المصوَّرة من خطوط المزي، وسماعاته على شيوخه، وإثباتاته لسماعات غيره، في الكتب والأجزاء الحديثية.
إلا أن مما ينبغي التنبيه عليه في هذا السياق، أن بعض الفضلاء ربما سارع في التعليق على بعض خطوط المزي، فذكر أنها بخطه القديم أوائلَ طلبه، اعتمادًا على ما تتضمَّنه من التواريخ.
والواقع أن المزي دوَّن سماعاتِه على النسخ الأصيلة التي سمع فيها، أو قرأ منها على شيوخه، ثم نقل كثيرًا من تلك السماعات على نسخٍ أخرى في أوقاتٍ متأخرة، لأغراض التقييد والإثبات، وهو في هذا جارٍ على طريقٍ معروفةٍ من طرائق العلماء، وجادَّةٍ مسلوكةٍ في تحويل السماعات وتلخيصها.
وعلى هذا، فكثيرٌ من خطوط المزي بسماعاته منقولٌ لا أصيل، متأخرٌ لا متقدم، ولا بُدَّ عند الدراسة والنمذجة من الفحص والفصل والتمييز.
ومن القرائن المساعدة في فصل هذا عن هذا:
1- أن حرفَ المزيِّ الكبيرَ، المحرَّرَ برويَّةٍ وتجويد، هو في الغالب منقول، نقله من أصوله في حال سعةٍ وفسحة، وهي -فيما يظهر- الحالُ التي فَهْرَسَ فيها الأجزاءَ الحديثية، وكتب أسماءها على غواشيها بالخط الكبير المحرَّر، كما يعرفه كلُّ مطالع للمجاميع والكنانيش الحديثية.
وأما الحرف الصغير المتقارب المستعجل، فالغالب أنه سماع أصيل، كتبه في مجلس السماع أو عقيبه.
2- وكذلك، فإذا كتب المزيُّ أكثرَ من سماع، على أكثر من شيخ، للجزء الواحد، في موضعٍ واحد، فإنه يغلب على الظن أنه ينقل ذلك عن الأصول، ويُثبته في نسخةٍ أخرى، وأنه ليس من إثباتاته الأصيلة.
3- ومن القرائن قرينةٌ مستعملةٌ لتمييز السماعات الأصيلة عن المنقولة عمومًا، وهي أن السماع المختصر بنحو: «سمعه جماعةٌ، منهم:...»، أو بذكر بعض السامعين، والإشارة إلى بقيَّتهم بكلمة: «وآخرون»، هو في الغالب سماعٌ منقول، وأن السماعَ التامَّ بذكر السامعين والمسمعين جميعًا، هو في الغالب سماعٌ أصيل.
4- هذا فضلًا عما يكون صريحًا في أن السماع منقولٌ لا أصيل، فللمزي من هذا النحو أشياء، كأن يكون السماع لغيره، أو يكون سماعًا قديمًا لم يدركه، أو يصرح في السماع باسم كاتبِهِ في الأصل الذي ينقل منه.
والغالب على ما هذا نحوه أن يكون بحرف المزي الكبير المتأني، كما قدمنا الإشارة إليه.
وفيما يلي نماذج للنوعين، والله الموفق، والهادي إلى الحق.
سماعات منقولة بخط المزي مؤرخة قبل ولادته
سماعان منقولان بخط المزي، أحدهما سماع لأخيه، نقله عن خط شيخ الإسلام ابن تيمية[2]
سماعات بخط المزي منقولة عن أصوله بتواريخ متباينة
سماعات أصيلة بخط المزي
----------------------
[1] طبع في دار الحديث الكتانية ببيروت. وبين يديَّ نسخةٌ أخرى أقدمُ لسؤالات السبكي، ولعل الله ييسر تحقيقها والعناية بها - بإذنه -.
[2] أبعد أحد محققي الكتاب جدًّا، فظنَّ أن هذا السماع بخط ابن تيمية نفسه.