⚘ختم صحيح البخاري
أ.د. عبد السميع الأنيس
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
١- انتهينا قبل قليل من قراءة صحيح البخاري رواية ودراية، فلله الحمد والمنة والفضل والثناء الحسن.
وكان القارئ الأخ الطبيب الدكتور عبدالمجيد أسامة..
٢- وكنا قد ابتدأنا بقراءته: يوم الثلاثاء: ٨/من شعبان ١٤٤٤، الموافق ٢٨-٢- ٢٠٢٣،
وانتهينا منه هذه الليلة، ليلة الأربعاء: ٨/من ذي الحجة سنة ١٤٤٦، الموافق، ٤-٦- ٢٠٢٥.
٣- 🎋وكل يوم أزداد يقيناً بأن كتاب الجامع الصحيح هو أصح كتاب في الحديث النبوي الشريف وأفضله وأتقنه!
وهو كتاب الإسلام بحق وصدق.
٤- 🎋وقد بدا لي بعد إكمال قراءته:
أن الله سبحانه قد وهب البخاري عقلاً مبدعاً، وما أشبِّهه إلا بمهندس معماري بارع استطاع بعبقريته الفذة أن يخرج للأمة تحفة فنية تأخذ بالقلوب والأبصار..
ولا يستطيع أن يكتشف أسراره إلا من عاش معه، وسبر أغواره، وعكف على دراسته، وحلَّ ألغازه، وطالع الشروح التي كتبت عنه.
وما أشبِّه كتابه الجامع الصحيح إلا بدار عامرة، واسعة تضم قرابة مئة جناح، في كل جناح غرف مبنية بإتقان وجمال، يحيط بها حدائق غناء ذات بهجة فسيحة مريحة، تحتوي على أشجار مثمرة كثيرة ومتنوعة، ويتدلى من خلالها أنواع من الأزاهير والورود ذات الروائح المنعشة الأخاذة، وتجري في أفيائها جداول الماء التي تسر الناظرين، وتبهج قلوب المحبين.
كما تبين لي: أنه لا تظهر عجائبه إلا بعد الاطلاع على مصادره، ومقارنته بكتاب المصنف لشيخه ابن أبي شيبة، وكذلك مصنف عبدالرزق رحمهما الله تعالى.
٥- 🎋وقد ظهر إبداعه في اختيار الأحاديث التي خرَّجها في كتابه، وحسن تصنيفه، وجمال تبويبه، وتناسب كتبه وأبوابه كل ذلك بتنسيق عجيب، قد يبدو سهلاً، ولكن لا يتأتى لأحد أن يحذو حذوه، ولا أن يأتي بمثاله.
٦- 🎋عندما تقرأ كتابه يخيَّل إليك أنَّ الإمام البخاري رحمه الله اطلع على كل ما جاء عن النبي ﷺ من أحاديث، ثم اختار منها ما وضعه في كتابه، فهو يأخذ منها ما يشاء، ويدع ما يشاء. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
٧- 🎋وكانت القراءة قراءة رواية ودراية، وكنا نراجع عند الإشكال، شروحه المعروفة، وأهمها: فتح الباري لا بن حجر، وعمدة القاري للعيني، وإرشاد الساري للقسطلاني، وتعليقات المحدث أحمد السهارنفوي فإنها مهمة، وكنا كثيرا ما نلجأ إليها لحل المشكلات، وغيرها.
٨- 🎋هذا، وقد أكرمني الله سبحانه بتلقي الصحيح عن عدد من شيوخي، قراءة لبعضه وإجازة لباقيه، ودراية، أكتفي بإيراد سندي من طريق:
1- شيخنا المسند الشيخ محمد ياسين الفاداني المكي (ت: ١٤١٠هـ)،
2- عن محدث الحرمين عُمَرَ بنِ حَمْدَانَ المَحْرَسيِّ (ت: 1368 هـ)،
3- عن أبي النَّصْرِ مُحمَّدِ بنِ عَبْدِالقَادِرِ الدِّمِشْقِيِّ الخَطِيْبِ (ت: 1324 هـ)،
4- عن المحدث عبدِ الرحمن الكُزبَري الحفيد الدمشقي (ت: ١٢٦٢هـ)،
5- عن مصطفى الرَّحْمَتِيِّ الدمشقيِّ ثم المدني (ت: ١١٣٥هـ)،
6- عن الشيخ عبد الغني النابلسي (ت: ١٠٥٠هـ)،
7- عن الإمام نجم الدين الغَزِّي (ت: ٩٧٧ هـ)،
8- عن والده بدر الدين الغَزِّي (ت:٩٠٤ هـ)،
9- عن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري (ت: ٩٢٦ هـ)،
10- عن الحافظ ابن حجر (ت: ٨٥٢ هـ)،
11- عن أبي هريرة ابن الذهبي (ت: ٧٩٩ هـ)،
12- عن الحافظ الذهبي (ت: ٧٤٨ هـ)،
13- عن الحافظ اليونيني (ت: ٧٠١ هـ)،
14- عن الحافظ الحسين بن المبارك الزَّبيدي (ت: ٦٣١ هـ)،
15- عن نسخة أبي الوقت عبد الأول السجزي (ت:٥٥٣ هـ)،
16- عن أصل شيخه الداودي (ت: ٤٦٧ هـ)،
17- عن أصل شيخه الحَمُّوي (ت:٣٨١ هـ)،
18- عن أصل شيخه الفَربري (ت: ٣٢٠ هـ)،
19- عن أصل شيخه البخاري (ت: ٢٥٦ هـ)،
وأرويه بأعلى منه درجة، من طريق الحافظ ابن حجر:
عن إبراهيم بن أحمد التنوخي (ت: 800 هـ)،
عن أحمد بن أبي طالب الحجار: (ت: 730 هـ)،
عن الحسين بن المبارك الزَّبيدي،
عن أبي الوقت السجزي،
أخبرنا بجميعه الداودي،
قال: أخبرنا بجميعه ابن حمُّويه،
قال: أخبرنا بجميعه الفَربري،
قال: أخبرنا البخاري.
٩- 🎋ومن أراد أن يتوسع في معرفة هذا الكتاب، فعليه بكتابي الذي صدر حديثاً:
الإمام البخاري وكتابه الجامع الصحيح
دراسات في المكانة والمنهج والأثر
بيّٰنت فيه أسباب تفضيله على كتب الحديث، وملامح من منهجه في التأليف والتخريج
ومظاهر من عناية الأمة به، وأهم مخطوطاته في العالم.
وقد صدر عن المنتدى الإسلامي بإمارة الشارقة.
وصدق مَنْ قال: إنَّ الكتاب لا يعطيك سره ما لم تقرأه كله.
١٠- 🎋نماذج من الفوائد:
⚘ثلاث فوائد نفيسة في صحيح البخاري:
لفت نظري ونحن نقرأ صحيح البخاري وجود فوائد كثيرة، فقهية وحديثية تستحق أن تفرد، من ذلك:
🎋الفائدة الأولى: استنباط أحكام فقهية من حديث أَنَسٍ رضي الله عنه برقم (6239) قَالَ:
«لَمَّا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ ﷺ زَيْنَبَ دَخَلَ الْقَوْمُ فَطَعِمُوا، ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ، فَأَخَذَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ، فَلَمْ يَقُومُوا، فَلَمَّا رَأَى قَامَ، فَلَمَّا قَامَ قَامَ مَنْ قَامَ مِنَ الْقَوْمِ وَقَعَدَ بَقِيَّةُ الْقَوْمِ، وَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَاءَ لِيَدْخُلَ، فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا فَانْطَلَقُوا، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ ﷺ، فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ، فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ فَأَلْقَى الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الْآيَةَ»
🎋قال أبو عبد الله: فيه من الفقه: أنه لم يستأذنهم حين قام وخرج.
وفيه: أنه تهيأ للقيام وهو يريد أن يقوموا.
مع ملاحظة أن هذه الفائدة مذكورة في طبعة البغا، ولم نجدها في الطبعة السلطانية!
🎋الفائدة الثانية: توافق حديث نبوي مع آية قرآنية.. قال رحمه الله:
بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} جَمْعُهُ سُعُرٌ، قَالَ مُجَاهِدٌ: {الْغَرُورُ} الشَّيْطَانُ.
ثم أورد حديث ابْن أَبَان، قال:
«أَتَيْتُ عُثْمَانَ بِطَهُورٍ وَهْوَ جَالِسٌ عَلَى الْمَقَاعِدِ، فَتَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ النبي ﷺ تَوَضَّأَ وَهْوَ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ مِثْلَ هَذَا الْوُضُوءِ، ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ،
قَال: وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لَا تَغْتَرُّوا».
رقم (6433)
فانظر إلى توافق قوله ﷺ: لا تغتروا، وبين قوله سبحانه: (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ)
والمعنى: كما قال ابن حجر في فتح الباري:
"لا تغتروا": أي: لا تحملوا الغفران على عمومه في جميع الذنوب، فتسترسلوا في الذنوب اتكالاً على غفرانها بالصلاة؛ فإنَّ الصلاة التي تكفِّر الذنوب هي المقبولة ولا اطلاع لأحد عليه".
🎋الفائدة الثالثة: حكمه على حديث بأنه لا يصح:
أورد حديث أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه برقم (6443) قَالَ: «خَرَجْتُ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ يَمْشِي وَحْدَهُ وَلَيْسَ مَعَهُ إِنْسَانٌ، قَالَ: فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَهُ أَحَدٌ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَمْشِي فِي ظِلِّ الْقَمَرِ فَالْتَفَتَ، فَرَآنِي فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟
قُلْتُ: أَبُو ذَرٍّ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ،
قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، تَعَالَهْ.
قَالَ: فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً، فَقَالَ: إِنَّ الْمُكْثِرِينَ هُمُ الْمُقِلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا مَنْ أَعْطَاهُ اللهُ خَيْرًا فَنَفَحَ فِيهِ يَمِينَهُ وَشِمَالَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَوَرَاءَهُ وَعَمِلَ فِيهِ خَيْرًا.
قَالَ: فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً، فَقَالَ لِي: اجْلِسْ هَا هُنَا. قَالَ: فَأَجْلَسَنِي فِي قَاعٍ حَوْلَهُ حِجَارَةٌ، فَقَالَ لِي: اجْلِسْ هَا هُنَا حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكَ.
قَالَ: فَانْطَلَقَ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى لَا أَرَاهُ، فَلَبِثَ عَنِّي فَأَطَالَ اللُّبْثَ، ثُمَّ إِنِّي سَمِعْتُهُ وَهْوَ مُقْبِلٌ وَهْوَ يَقُولُ: وَإِنْ سَرَقَ، وَإِنْ زَنَى.
قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ لَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، مَنْ تُكَلِّمُ فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ؟
مَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَرْجِعُ إِلَيْكَ شَيْئًا،
قَالَ: ذَلِكَ جِبْرِيلُ عليه السلام، عَرَضَ لِي فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ، قَالَ: بَشِّرْ أُمَّتَكَ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ،
قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى،
قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى، قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ»
قَالَ النَّضْرُ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ: وَحَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ وَالْأَعْمَشُ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ بِهَذَا.
🎋قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مُرْسَلٌ لَا يَصِحُّ، إِنَّمَا أَرَدْنَا لِلْمَعْرِفَةِ، وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ.
قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ: حَدِيثُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: مُرْسَلٌ أَيْضًا لَا يَصِحُّ، وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ،
وَقَالَ: "اضْرِبُوا عَلَى حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ هَذَا، إِذَا مَاتَ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، عِنْدَ الْمَوْتِ".
🎋ومن الفوئد:
⚘صحيح البخاري كتاب الإسلام..
وقد اشتمل على قرابة (96) كتاباً.
وأقترح أن تجرَّد أحد عشر كتاباً أراها مهمة في بث الثقافة الحديثية التي تتعلق بالجانب الإيماني، والجانب العملي، ثم تحذف أسانيدها، وتشرح الكلمات الغريبة فيها، ويعلق عليها بتعليقات يسيرة، مع الحفاظ على تراجم الأبواب.
وأقترح أن تقرأ في البيوت والمساجد، وهذه الكتب المقترحة هي:
١) كتاب الإيمان.
٢) كتاب العلم.
٣) كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة.
٤) كتاب فضائل المدينة.
٥) كتاب فضائل القرآن.
٦) كتاب الأدب.
٧) كتاب الرِّقَاق.
٨) كتاب الدعوات.
٩) كتاب الفتن.
١٠) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة.
١١) كتاب التوحيد.
🎋ومن الفوائد:
الإمام علي بن المديني إليه المنتهى في علم العلل.
والإمام يحيى بن معين إليه المنتهى في الجرح والتعديل.
والإمام أحمد بن حنبل إليه المنتهى في فقه الحديث.
وتلميذهم الإمام البخاري إليه المنتهى في علم العلل وعلم الجرح والتعديل وفقه الحديث.
نسأل الله تعالى في هذه الأيام المباركة: العشر من ذي الحجة أن يتقبل منا بالقبول الحسن، والحمد لله رب العالمين.
أ.د. عبدالسميع الأنيس
مجموعة المخطوطات الإسلامية
@almaktutat