إجازاتُ
السّماعات القديمة
وإجازاتُ
الشّهـادات الحديثة
سماعات
الكتب وما يصحبها من خطوط المجيزين وكتّاب الطّباق وأسماء الحاضرين رجالا ونساء
وأطفالا، ملوكا وسلاطين وأمراء، محدّثين وفقهاء ولغويّين وغيرهم، مع توثيقها
بتواريخ دقيقة، وأمكنة عديدة، لهو مظهر من مظاهر الحركة العلميّة التي دأب عليها
أعلام المسلمين، ولا يرى نظير ذلك عند سائر الأمم، فضلا من الله ونعمة، والعجب لا
يكاد ينقضي من صبر كُتّاب طباق السّماعات من تقييد الحاضرين، بأسمائهم وكناهم
وأنسابهم وبلدانهم، والتّنبيه على المتأخّرين، وبيان مقدار أفوات سماعاتهم، وتحديد
من أعاد لهم الشّيخ تلك الأفوات، والإشارة للغافلين الذين أخذتهم سنة من النّوم،
أو تجاذبوا أطراف الحديث، أو غير ذلك من ملاحظات تدلّ على فطنة كاتب الطّباق،
ودوران عينيه على رؤوس السّامعين دوران (( الرّادار اللاّقط )) الذي يسجّل
الإشارات، أو يثبّت المخالفات، تماما ككاتب الطّباق لا يهمل مخالفةً صادرةً عن أحد
من شهود السّماع، ولأمانته وديانته لا تنفع معه شفاعة المخالفين، إلاّ ما شذّ من
التّوسّط لدى الشّيوخ المُسَمِّعين للتّكرّم بإعادة أفوات السّماع ـ وهو شيء لا
يحبّذونه للغاية ـ، من أجل كلّ ما سبق وغيره كانت تصحيحاتُ السّماع شهاداتٍ صادقةً
تعطي الحقّ لمن كان كبيرا شاهدا أو صغيرا حاضرا أن يروي مستقبلا ما حظي بسماعه على
الشّيوخ المُسَمِّعين بالشّرط المعتبر عند أهل الحديث والأثر وغيرهم، وهؤلاء
السّامعون يكتفون عادةً بوجود أسمائهم في الطّباق بخطوط العدول من الكتبة،
وتصحيحات الشّيوخ في آخرها، وقد يتفضّل الشّيخ فيكتب إجازةً مفردةً أو ملحقة بنسخة
السّامع، وتكون بمثابة الشّهادة الخاصّة التي تكرّم بها الشّيخ المسمِّع على
الطّالب السّامع.
إنّ
شهادات النّجاح التي تسلّم للنّاجحين في عصرنا الحاضر تشير إلى فترة زمنيّة طويلة
قضاها الطّالب دارسا متعلّما،
تجاوز خلالها عقبات الاختبارات، وغموض المحاضرات،
وحظي ـ بعد جهد مبذول ـ على شهادةٍ موثّقةٍ من الإدارة تخوّل له الانتقال إلى
مرحلة أعلى من التّعلّم، أو خوض غمار العمل، ويمكن أن يلتمس المرءُ أوجه شبه
وافتراق بين الإجازات القديمة والإجازات الحديثة:
1
ـ تخوّل الإجازة القديمة وتصحيحات الشّيوخ للسّماع الحقّ العلمي برواية الكتب
المسموعة وإسماعها، كما سمعها السّامعون عن شيوخهم، وكذلك الشّهادات العصريّة
تخوّل لمستحقّها أن يقرىء للطّلاّب الكتب التي قرأها على الأساتذة، وشرح الدّروس
التي فهمها من قبل علي أيديهم. هذا على جهة الإجمال وإلاّ فكم آخذٍ لشهادة عصريّة
نالها وهو ضعيف التّحصيل، قليل الدّراية، لا قدرة له على العطاء العلمي، ولا
الوقوف أمام الطلاّب شارحا ما درس، أو ناقلا ما تعلّم، وغاية تلك الشّهادة أن
يعلّقها بحائط، أو يدسّها في درج، أو يتّخذها وسيلة لوظيفة لا صلة لها بدرب العلم
الذي سلكه زمنا طويلا، وكذلك الشّأن مع الإجازات القديمة وتصحيحات الشّيوخ لسماعات
السّامعين، فكم من محصّل لها، أو شاهد مجالس قراءة كتاب، لا قدرة له على تدريس أو
عقد مجلس إسماع، وغاية شأنه أن يكون (( صحيح السّماع )) مع جهل تامّ
بالعلم الذي حواه الكتاب المسموع، ولكن نظرا لوجود اسمه في الطّباق وموت أقرانه من
العلماء الذين شهد معهم المجلس، جعل معاصريه الحريصين على اتّصال الأسانيد بالكتب
أن يطلبوا منه عقد مجلس يسمعون فيه عليه حاضرا ما سمعه هو على الشّيوخ قديما، وهم
يدركون أنّ الشّيخ لا زمام له في العلم ولا خطام، لكنّ سماعه صحيح، وقد يلقّنونه
ما سمع حتّى ينقضي المجلس ويصحّح لهم بخطّه أو بإذنه ما سمعوه عليه بقراءته أو
قراءة غيره، والنّاظر في كتب التّراجم يرى جملا من ملاحظات العلماء في هذا الباب
فيقولون: صحيح السّماع ليس عنده
كبير علم ولا ضبط، أو لم يكن يعرف شيئا من الحديث، أو لا يفهم شيئا من الحديث غير
أنّه صحيح السّماع، ونحو ذلك من جمل لا تخفى، وكلّ هذا نادر والأكثر فيهم أعلام
جمعوا بين صحّة السّماع، والدّراية العميقة، والفهم الدّقيق.
2 ـ
الأصل سلامة الإجازات القديمة وتصحيحات السّماع العتيقة وشهادات النّجاح الحديثة
من آفة التّزوير، وشاهد السّلامة خلوّ القديمة من كشط مريب أو حبر طريّ أو إلحاق
مريب، مع وجود خطوط المسَمِّعين والمجيزين وهي
مشهورة وغير مقلّدة، وخالف هذا الأصل صنيع من ابتلي بشره السّماع وسوّل لنفسه أن
يلحق خطّه في مجلس سماع لم يشهده، أو يحكّ اسما ويكتب ـ ظلما ـ فوقه اسمه، فيحرم شداة السّماع من معرفة السّامع
حقيقةً، وقد قيّض الله ـ بفضله وكرمه ـ أعلاما بارعين كشفوا هذا النّمط من
المزوّرين لطباق السّماع، وأدرجوا أسماءهم في كتب التّراجم، وأبانوا عن أساليبهم
المختلفة في تزوير الطّباق. وهكذا الشّأن مع الشّهادات العصريّة فقد طال كثيرا
منها تزوير مقصود إمّا بصنع واحدة مختومة بختم مزوّر هو الآخر، أو شراء شهادات من
جامعات غير أصيلة، تشهد لحاملها أنّه (( تَدَكْتَر عندهم أو تَمَاجَسْتَر ))، وهو لم يشهد عندهم درسا، ولم يكتب أطروحة، بل لم يقابل من
منسوبي تلك الجامعات أحدا، ولن يهتدي إليهم سبيلا؛ لأنّه استعان برجال من الإنس
لهم في (( وساطات )) الكذب والزّور
أساليب لا تقلّ شرّا عن أساليب إخوانهم من الجنّ الطّالحين.
د. جمال عزون
مجموعة المخطوطات الإسلامية