تعليق العلامة ابن العنابي على "المحلى" لابن حزم
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
هو العلامة محمد بن محمود بن محمد بن حسين الجزائري المعروف بابن العنَّابي(1189- 1267هـ)
كان عارفا بالمذهب الحنفي مُتقِنًا له، فقد كان قاضي الأحناف ومفتيهم بالجزائر قبل هجرته إلى مصر، ولما نفاه الـمُستدمِر الفرنسي استقرَّ بالإسكندرية وولاه محمد علي الإفتاء بهذه المدينة، فكان يوقِّع فتاويه:"مفتي السادة الحنفية بثغر الإسكندرية"(رائد التجديد الإسلامي محمد بن العنابي ص42، 45 للمؤرخ أبي القاسم سعد الله رحمه الله).
وقد صنَّف شرحا على"الدر المختار" لم يتمَّه، أثنى عليه الشيخ محمد بيرم ثناء عطِرا:"(رائد التجديد ص124، معجم أعلام الجزائر ص245).
وكان قد رحل إلى مصر قبل ذلك، وبقي مدة بالجامع الأزهر يُدرِّس ويُفيد، وانتفع به علماء الأزهر فضلا عن طُلابه كما قال عبد الحميد بك في تاريخه، وفي هذه المدة(سنة 1242هــ) صنَّف كتابه الفريد:"السعي المحمود في نظام الجنود"، وقد أجاز غيرَ واحد من معاصريه كإبراهيم السقا، وعبد القادر الرافعي ومحمد بيرم الرابع وغيرهم.
وكان كثير المطالعة، لا يكاد يُخلي الكتب التي يقرؤها من تعليقاته وتعقباته، كتعليقاته على كتاب"كعبة الطائفين" وغيره (انظر رائد التجديد ص32-33، أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر 1/164 ، تاريخ الجزائر الثقافي (2/176، 410)كلها لمؤرخ الجزائر أبي القاسم سعد الله رحمه الله).
نسخة المحلى:
هذه النسخة محفوظة بدار الكتب المصرية، وقفتُ على مصوَّرة منها، وتقع في ست مجلدات من بينها تكملة أبي رافع، إلا أنَّ المجلد الأول منها مفقود، ولم يُذكر اسم ناسخها، وقد نُسخت سنة (780هـ) كما في آخر المجلد الثالث، والمجلداتُ الأخرى وإن خلت من ذِكر التاريخ إلا أنَّ الظاهر أنها منسوخة في السنة نفسها أو ما قاربها، وهي نسخة مقابلة على الأصل المنقولة منه كما نصَّ على ذلك الناسخ في مواضع كثيرة بقوله:"بلغت مقابلة"، ويظهر ذلك أيضا من اللحق الكثير المثبت على هوامشها، فضلا عن إثبات فروق كثيرة من نسخة أخرى، كما أنَّ بها حواشيَ مفيدة وبعض التعقبات على ابن حزم، ومنها هذه الحواشي التي بخطِّ العلامة ابن العنابي رحمه الله.
وقد أوقف هذه النسخة الملك المؤيد شيخ على طلبة العلم بالمسجد الذي بناه بالقاهرة وعُرف بالجامع المؤيدي كما هو مرقوم على صفحة العنوان من جميع المجلدات الموجودة.
وممَّن وقف على هذه النسخة العلامة المحقِّق حسن العطار، وكتب بخطِّه ما يفيد اطِّلاعه عليها، و قيَّد ذلك آخرَ المجلد الثاني كما في"فهرس دار الكتب المصرية"(1/551، ولم أطَّلع على ذلك لأن ورقات يسيرة من آخر المجلد الثاني ساقطة من النسخة المصورة)
الأدلة على أنَّ الحواشي المذكورة لابن العنابي:
هناك أربع حواشٍ لابن العنَّابي من ضمن الحواشي الكثيرة المرقومة على هامش هذه النسخة، ويدلُّ على ذلك أمور:
1-أنها مطابقة لخطِّه مطابقة واضحة، وانظر نماذج من خطه في "الأعلام" للزركلي(7/89)، مجموع فيه إجازات من علامة الجزائر ابن العنابي(ص29-31).
2- أنه وقَّع ثلاث حواشٍ بعبارة:"كتبه محمد بن محمود الجزائري"، وهو اسمُ ابنِ العنابي، وبه يذكره الكتاني في"فهرس الفهارس" و عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ وغيرهما.
3- ومما يُستأنس به أنَّ هذه الحواشي تعقبات على ابن حزم في مسائل متعلقة بمذهب أبي حنيفة، وابنُ العنابي كان عارفا بالمذهب الحنفي مُتقِنًا له، وهو مفتي الحنفية في الجزائر والإسكندرية، ثم إنَّ هذه النسخة من"المحلى" أوقفها الملك المؤيد على جامعه واشترط عدم إخراجها منه، وهذا هو شرطه في جميع الكتب التي أوقفها على جامعه (انظر تاريخ المكتبات في العصر المملوكي للنشار ص207، 239)،وقد استقرَّ بها النوى-بعد وفاة ابن العنابي- بدار الكتب المصرية، فمصدرها ومستقرُّها مصر، وابنُ العنابي قد مكث بالقاهرة تسع سنوات، ثم بعد نَفيه من الجزائر استوطن الإسكندرية إلى أن توفي، فاطِّلاعُه على هذه النسخة في غاية الإمكان لا سيما مع ما عُرف به من كثرة الاطلاع، واعتنائه بكتبٍ قلَّ مَن يَلتفتُ إليها في ذلك الوقت كصحيح ابن حبان والأحكام لعبد الحق الاشبيلي وغيرهما (وانظر "مجموع فيه إجازات من علامة الجزائر ابن العنابي" ص14).
وهذه الحواشي كلُّها في المجلد الثاني، ولم أجد شيئا منها في المجلدات الأخرى، ويحتمل أن تكون له تعليقات في المجلد الأول المفقود –إن كان وقف عليه- فإن مَن وقف على كتابٍ يحرص غالبا على الاطلاع على المجلد الأول منه، والعلم عند الله تعالى.
1-الحاشية الأولى:
ذكر ابن حزم صفةً من صفات صلاة الخوف، وعزاها إلى أبي حنيفة وأصحابه إلا أبا يوسف فقد رجع عنها، ثم قال: "هذا عمل لم يأت قطُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم" (المحلى 3/241)
فتعقَّبه العلامة ابنُ العنابي بورود ذلك عن ابن عباس، فقال:
"بل قد جاء فيه أثر عن ابن عباس، رواه محمد بن الحسن في"الآثار"، كتبه محمد بن محمود الجزائري" (ق85)
وقول ابن عباس هذا رواه محمد بن الحسن الشيباني في"الآثار"(195) قال: أخبرنا أبو حنيفة قال:حدثنا الحارث بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، ولم يسق لفظه بل قال:"مثل ذلك"، وأحال على رواية إبراهيم النخعي، وهي التي ذكرها ابن حزم ونسبها إلى مذهب أبي حنيفة(وانظر تهذيب الكمال 34/381، الإيثار ص58، وتعجيل المنفعة2/557 لابن حجر).
2- الحاشية الثانية:
قال ابن حزم تعليقا على أحد قولي أبي يوسف القاضي: لا تُصلَّى صلاة الخوف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"وهذا خلاف قول الله تعالى:"لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة"..." (المحلى 3/242).
فتعقَّبه ابن العنابي بقوله:
"بل لو فهِمت قوله تعالى:"وإذا[كنتَ فيهم] كما فَهِمَه لما أنكرتَه،فإنه[تعالى] علَّق الحكم فيها على كونه صـ[ـلى الله] عليه وسلم فيهم، والمـــ[ــــعلَّق على]شرطٍ يَنتفي بانـــ[ـــتِفائه]. كتبه محمد بن محمـ[ــمود الجزائري]" (ق86).
وما بين معقوفين غير ظاهر في النسخة المصورة فأكملته اجتهادا، ويوضحه قول العيني في بيان وجه استدلال أبي يوسف بالآية على مذهبه:" وذلك أنَّ الله تعالى قد خصَّ هذه الصلاة بكون النبي صلى الله عليه وسلم فِيهم، فإذا خرج من الدنيا عدم الشرط، وانتفاءُ الشَّرطِ يَستلزم انتفاءَ الـمَشروط"(نخب الأفكار 5/ 270).
3- الحاشية الثالثة:
قال ابن حزم في المسائل المختلف فيها في صلاة العيدين:"ومنها التكبير، فإن أبا حنيفة قال: يكبِّر للإحرام، ثم يتعوَّذ، ثم يكبِّر ثلاث تكبيرات يجهر بها، ويرفع يديه مع كلِّ تكبيرة، ثم يقرأ..." (المحلى3/294).
فعلَّق العلامة ابن العنابي على هذا الكلام بقوله:
"هذا كذب على أبي حنيفة، فإنَّ الذي في كتب مذهبه أنه يُكبِّر، ثم يقرأ دعاء الاستفتاح"سبحانك اللهم"، فإذا فرغ منه كبَّر الزوائد. كتبه محمد بن محمود الجزائري"(ق124).
وسُمِّيت هذه التكبيرات بالزوائد لزيادتها على تكبير الإحرام والركوع ( مراقي الفلاح 1/201).
وما ذكره ابن حزم هو مذهب أبي يوسف، وذكر صاحب"مجمع الأنهر"(1/95)-إن لم يكن وهِم في ذلك- أنها رواية عن أبي حنيفة، لكن المشهور في كتب الحنفية ما ذكره ابن العنابي عن أبي حنيفة أنَّ التعوُّذ تبَعٌ للقراءة فيكون بعد التكبيرات الزوائد(انظر تحفة الفقهاء1/128، الهداية للمرغيناني 1/49، المحيط البرهاني1/358، غنية المتملي ص304، حاشية ابن عابدين 1/490)
وفي بعض كتب الحنفية حكاية الخلاف بين أبي يوسف ومحمد، ولم يذكروا قول أبي حنيفة(انظر البناية للعيني 2/190).
ولعلَّ عُذر ابن حزم فيما ذكر أنه كثيرا ما يعتمد في حكاية مذهب أبي حنيفة على الطحاوي، وقد ذكر الطحاوي أنه يتعوَّذ بعد الاستفتاح وقبل التكبيرات(شرح مختصر الطحاوي 2/151، وانظر رسائل الشيخ محمد بوخبزة ص75).
4- الحاشية الرابعة:
وقد خلت هذه الحاشية من توقيعها باسمه، لكنه خطُّه بلا ريب.
ذكر ابن حزم في كتاب الزكاة عند كلامه على نصاب البقر قول مَن ذهب إلى قياس البقر على الإبل لاشتراكهما في جملةٍ من الأحكام، ثم قال:"وأما احتجاجهم بقياس البقر على الإبل في الزكاة فلازم لأَصحاب القياس لُزومًا لا انفكاك له، فلو صحَّ شيء من القياس لكان هذا منه صحيحا، وما نعلم في الحكم بين الإبل والبقر فرقًا مجمعًا عليه..."( المحلى 4/99)
فعلَّق العلامة ابن العنابي على هذا الكلام بقوله:
"هذه رَقاعة، هيهات الإبل من البقر"(ق285)
يشير إلى وجود فوارق بينهما تمنع من إلحاق أحدهما بالآخر في هذه المسألة، وإن اعترى عبارته شيء من القسوة.
والله تعالى أعلم والحمد لله رب العالمين.
د. رابح مختاري
مجموعة المخطوطات الإسلامية