التأمُّل وأثره في إدراك الخلل وتصحيح النص
بقلم الشيخ د. رابح مختاري الجزائري
إنَّ التحقيق رياضة عقلية، مبدؤها دقَّة الاستشكال والتنبُّه لمواطن الخلل ومظانِّ الاشتباه، وغايتُها تقويم الأوَد وسدُّ الثُّلمة، وإنما يؤتي أكله بإدمان النظر، وطول الفحص وكثرة التنقيب، مع الاستعانة بمسبار الفَهم، ومحك النقد، وطول الرويَّة، فإنَّ العجلة مفتاح الزلل، وبَريد الخطل، وإنَّ الصواب إن آثرتَ الصبرَ عليه، ودبَّرتَ له نظرا بعد آخر أوشك فِكرك أن يهجم على حقيقته وأن يصل إلى غوره، وقد قالوا:"للقلب عين كما للبدن عين"، فعينُ القلب هي التي تبصر المعاني على حقيقتها وتنفذ إلى أعماقها.
قال الحافظ ابن حجر:"من تأمل ظفر"
والتأمل المقصود هو التأمل على وجه التمام وتقليبُ وجوه الاحتمال وترداد ذلك مرة بعد أخرى إلى أن تبلغ كُنهَ العبارة، لا نصف التأمل الذي يحمل صاحبه على المسارعة إلى التخطئة بالرأي الفطير والنظر العابر، فلغة العرب بحر لا ساحل له، وأساليب العرب في كلامها دروب متشعبة لا يعرف مسالكها العجِل المَلول، فهما آفتان في طريق المحقِّق: الركون إلى التقليد من غير إجالة النظر، والتجاسر على التخطئة قبل تمام التأمل.
قال العيني متعقِّبًا أحد العلماء تبع غيره على الوهم:"والآفة في مثل هذا من عدم التأمل والتقليد"(عمدة القاري 17/ 98)
وقال ابن الهمام:"مفاسد قلة التأمل مما يضيق عن الإحاطة به نطاق البيان"(فتح القدير 8/ 271).
وقال إبراهيم اللقاني:" :"قلة التأمل مفاسدها كثيرة"(قضاء الوطر ص508)
ومن أمثلة ذلك:
1- ورد في بعض كتب الإمام ابن دقيق العيد هذه العبارة:"ظاهر قراءة الخِرَقيِّ قوله تعالى:"وأرجلَكم" يخالف ما اقتضاه هذا الحديث وسائر الأحاديث المتضمنة للغسل..."
هكذا أثبتها المحقق:"الخِرَقيِّ"، وضبطها بالقلم أيضا، ولا يُعرف في القراء المشاهير مَن يسمى ب"الخرقي"، وقوله تعالى "وأرجلكم" قرأها بنصب اللام:نافع وابن عامر والكسائي، وقرأها بالخفض: ابن كثير وحمزة وأبو عمرو، واختُلف عن عاصم، فيُستبعد من ابن دقيق العيد أن يُغفل ذِكر القراء السبعة المشاهير، وينسب قراءة منها إلى غير مشهور، هذا أول ما ينبغي أن يَستوقف قارئ هذا النص، ثم يحاول بعدها تقليب الاحتمالات الممكنة لتصويب العبارة إلى ما يناسب السياق والمعنى، ومن ذلك أن تتقارب الكلمتان في الأصل حتى يُظن أنهما كلمة واحدة لاسيما إن كان الناسخ قد ترك إعجام الحروف وأهمل نقطها، وقد ذكر المحقق محمود الطناحي رحمه الله أنَّ من أسباب وقوع التصحيف:"قرب الحروف وبُعدها في الكلمة الواحدة، أو الكلمتين، فتهجم العين على الكلمتين، فتقرأهما كلمة واحدة، أو تلتقط جزء من الكلمة الواحدة، فتقرأه كلمة مستقلة"
والذي يظهر أنَّ صواب العبارة:"قراءة الجَرِّ في قوله تعالى..."، فتصحفت"الجَـرِّ في" إلى:"الخِـرَقي"، وتمام كلام المؤلف(ابن دقيق العيد) يدلُّ على أنه تعرَّض لقراءة الجرِّ وما قد يُفهم من معارضتها للأحاديث الصريحة في الغسل، وقد ترتب على هذا التصحيف أن أثبت المحقق الآية بنصب اللام في "أرجلكم"، فضاع بذلك موضع الشاهد.
وقريب منه من حيث إنَّ التأمُّل يحمل صاحبه على إدراك خللٍ في السياق يدعوه إلى إجالة النظر وطول الفحص لتبيُّن وجه الصواب، ما وقع في الكتاب المتقدِّم عند ذكر الرواة عن أبي حازم سلمة بن دينار ، فقال:"روى عنه مالك والثوري وابن عيينة وسليمان بن بلال، وأبوغسان محمد بن مطرف، واسمه عبد العزيز"
وهذا غريب فقد ذَكر أنَّ أبا غسان اسمه"محمد"، فكيف يقول بعدها:"واسمه عبد العزيز"، وصواب العبارة:"وابنه عبد العزيز"، أي ممن روى عن أبي حازم:ابنُه عبد العزيز، وهو راوٍ معروف.
ويدل على هذا أن المؤلف(ابن دقيق العيد) إنما نقل هذا الكلام من"تقييد المهمل" للجياني، وهو فيه (2/ 551) على الصواب:"ابنه عبد العزيز".
والله تعالى أعلى وأعلم.
2- ومما يقع فيه الزلل أن يكون سياق الكلام مستقيما في الظاهر، ولكن بمراجعة المظان يتبيَّن وجه التصحيف الواقع في الأصل أو في قراءة المحقق، والمراد ما كان خطأ بَـيِّنًا، وليس ما له وجهٌ يصحُّ به.
ومثال ذلك ما يرد في كتب التراجم من نحو قولهم:"صاحب حديث كذا" أو "روى حديثا في كذا" ولا يذكرون نصَّ الحديث، بل يشيرون إلى موضوعه، فينبغي على المحقِّق أن يراجع مظانَّ هذا الحديث للتأكُّد من سلامة ما ورد في النص، و من سلامة قراءته ولا ينبغي أن يكتفي بمجرد وضوح العبارة في المخطوط واستقامتها في الظاهر، إذ قد يعتريها تحريف، وقد تسبق إلى ذهنه قراءة معيَّنة تكون مجانبةً للصواب.
ومن ذلك ما وقع في"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم(5/ 205/رقم:958) في ترجمة:"عبد الله بن يونس"، قال:"يُعرف بحديث واحد، روى عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حيث[ كذا وفي المصادر:"حين"] نزلت آية الملائكة..."
هكذا وقع في المطبوع:"الملائكة"، وكذا في نسخة كوبريلي(ق286/أ)، وهو كلام من حيث الظاهر مستقيم ومتلائم، ولكنه على التحقيق اعتراه تصحيف، والصواب كما في مصادر الحديث:"الملاعنة" وليس"الملائكة"، وقد روى هذا الحديثَ الشافعيُّ في"الأم" وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم وغيرهم وفيه:"الملاعنة"،وعند أبي داود: "المتلاعنين" وبوَّبوا عليه بما يدل على التغليظ في الانتفاء من الولد كما هو مدلول الحديث، وليس فيه ذِكرٌ للملائكة، وقد ذكر ابن أبي حاتم نفسه أن عبد الله بن يونس راويه يُعرف بحديث واحد، وقال عنه الدارقطني:"لا أعرفه إلا في هذا الحديث" (العلل10 /375، وانظر"بيان الوهم والإيهام"4 /472، تهذيب الكمال16 /337)، وهذا يدفع أن يكون له حديث آخر فيه ذِكر الملائكة.
ومما يؤيِّد هذا أن ابن الملقن أورد هذا الحديث في"البدر المنير"(8 /185) في كتاب اللعان، وذكر طرقه ثم قال:"وقال ابن أبي حاتم:عبد الله بن يونس يُعرف بحديث واحد عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر هذا الحديث[أي أشار إليه]، روى عنه يزيد بن عبد الله بن الهاد، سمعت أبي يقول ذلك"، وفي هذا إشارة إلى أن الواقع في نسخة ابن الملقن أو نسخةِ مَن نَقَل عنه ابنُ الملقن من كتاب"الجرح والتعديل" هو "الملاعنة" على الصواب، وانظر"عون المعبود" (6/ 251).
ويقرب من هذا المثال ما ورد في"التهذيب" لابن حجر(7/ 44 ط المعارف النظامية) في ترجمة"عبيد الله بن القبطية":"له في الكتب حديثان:أحدهما ....والآخر عند (م،د) في الخمس"
وقوله:"الخمس" تصحيف وصوابه:"الخسف"، وربما احـتمـل:"الجيش"، فإن الحديث رواه مسلم وغـيره من طــريق عــبيد الله بن القبطية قال:دخل الحارث بن أبي ربيعة وعبد الله بن صفوان وأنا معهما، على أم سلمة أم المؤمنين، فسألاها عن الجيش الذي يخسف به...الحديث، وهو بنحوه عند أبي داود، وقد اتفقت المصادر على أن حديثه في الجيش الذي يخسف به، وليس في الخمس.
قال البخاري في ترجمة"عبيد الله بن القبطية":"روى عنه عبد العزيز بن رفيع في الخسف"(التاريخ الكبير5/ 396، وانظر"التاريخ الأوسط"(1/ 142)، وكلام ابن حجر هنا اختصار لما أورده المزي من حديث ابن القبطية، وهو إنما أورد حديثين، الثاني منهما حديث أم سلمة في الجيش الذي يخسف به، ثم قال:"هذا جميع ما له عندهم"، ولم يورد له حديثا في الخمس.
وقد وقع في طبعة الرسالة من"التهذيب"(3/ 25):"في الخسف" على الصواب.
3- ومن ذلك أن يُنقل توثيق أحد الرواة عن شخص غير مشهور بتزكية النقلة، أو يُحكى رأي فقهي عن أحد لا يتردد اسمه في كتب الفقهاء، وهكذا في كل فنٍّ، فإن مثل هذا ينبغي أن يستوقف المحققَ النَّابه ليحرِّر اسم المنقول عنه حتى يتأكَّد من سلامته من التحريف وخلوِّه من التصحيف.
ومن أمثلة ذلك ما وقع في ترجمة(عبد الله بن صالح كاتب الليث) من"تهذيب التهذيب" لابن حجر(5 /260-ط المعارف النظامية) و(2 /356 ط الرسالة):"وقال أبو هارون الخريبي: ما رأيت أثبت من أبي صالح"
هكذا وقع في"التهذيب":"الخريبي"، وتبعه على ذلك غير واحد من المعاصرين فذكروا أبا هارون الخريبي ممَّن وثَّق عبد الله بن صالح.
فمن أبو هارون الخريبي هذا؟ إذ ليس هو ممن شُهِر بنقد رواة الآثار، فيبقى احتمال أن يكون من تلاميذ كاتب الليث أو ممن عاصروه والتقوا به لكني لم أجد مَن ذكره بهذا الاسم في الرواة عن أبي صالح كالمزي وغيره، فقوِي في النفس أن يكون وقع في اسمه تحريف، وتبيَّن بعد البحث أنَّ صوابه:"الـجِبْـريني" نسبة إلى"بيت جبرين" وهي قرية بفلسطين(انظر "الأنساب" لابن السمعاني 3 /189-190).
ثم راجعت نسخة خطية نفيسة من"التهذيب" فيها زيادات وإلحاقات بخط الحافظ ابن حجر نفسه فوجدت الاسم وقع عنده:"الجبريني" على الصواب(انظر ق58/ب).
ووجدت عند البيهقي في"الأسماء والصفات"(1 /590) روايةً من طريق أبي هارون إسماعيل بن محمد عن أبي صالح، وقال البيهقي عقبها:"وأبو هارون هذا هو إسماعيل بن محمد بن يوسف بن يعقوب الجـبـريني الشامي، يروي عن أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث"
فتبيَّن أنه صاحبنا، فهو شامي لأنه جِـبْـرِيني(وهي قرية من فلسطين كما تقدم وفلسطين من الشام)، أما"الخريبي" فنسبةً إلى"الـخُـرَيبة"، وهي محلة بالبصرة(انظر"الأنساب" لابن السمعاني 5/ 107)، فليست هي من الشام.
وتـتَّـضح أهمية الأمر أكثرَ إذا علمنا أنَّ أبا هارون هذا مُـتَّـهَم شدَّد القول فيه غير واحد من الأئمة(انظر لسان الميزان 1 /432، وغيره).
وعلى هذا فقِس في كل ما تقرؤه من كتب التراث أو تستشهد به من نصوص العلماء.
قال العلامة الطناحي رحمه الله:"فعُدَّة المحقِّق الأولى هي الكتب في كلِّ فن، لأنه في كل خطوة يخطوها مع النصِّ مطالَب بتوثيق كلِّ نقل، وتحرير كلِّ قضية، بل إنَّ المحقِّق الجاد قد يبذل جهدا مضنيًا لا يظهر في حاشية أو تعليق، وذلك حين يريد الاطمئنان إلى سلامة النص واتساقه".
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
د. رابح مختاري
مجموعة المخطوطات الإسلامية