🌴شذرات مهمة من حال الأئمة في العلم والعمل، وتنبيهات متممة على معاني أقوالهم في ذلك
قال الإمام الجعبري:
(ما وردَ عن الأئمة من التسليك:
رُوي عن أبي حنيفة أنه كان لا يُباحِث.
معناه: لا يُبَاحِثُ بحْثَ مغالبةٍ ومغالطةٍ، ولا مع مَنْ يبحثُ كذلك، بل يبحثُ لإظهار حقٍّ مع مريدهِ، ائتماراً لقوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا وتعاونوا على الإثم والعدوان) .
فحظُّ العالم مِنْ هذا كفُّ النفس عن هواها، وردُّها إلى منتهاها، لتستحق نداء (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية).
*
وعن مالك: أنه كان لا يشغل إلا مَنْ صحَّ ذهنه، وطهرتْ نفسُه، ووهبَ للعلم عمره.
معناه: أنه كان لا يشغل الاشتغال الكلي إلا لمتصفٍ بها يعي فيؤدي، وتقدمه نية صالحة فيزكو، ويتمكن من النظر فيرتقي، امتثالاً لقوله [بياض في الأصل]: "لا تؤتوا الحكمة لغير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم".
فحظُّ العالم مِنْ هذا تفقُّد حالِ الطلبة، والإقبال على مَنْ تحلى بتلك الصفات، وإيصاله إلى مطلوبه بأسهل الطرق، ليُؤتي كل ذي حقٍّ حقه، ليكون من المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
*
وعن الشافعي: ما باحثتُ أحداً إلا وددتُ أن يظهر الحقُّ على لسانه.
معناه: أنه تمنى حصولَ الوفاق مع خصمه، مع قطع النظر عن أحد الطرفين، لأنهما إذا لم يتفقا لم يعتقد صحة ظنه فلا يسميه حقاً، والتقديرُ أنهما عاجزان عن اليقين، فإذا اتفقا اجتمعَ ظنّاهما، وهو أقوى من واحد، فيكون أقرب إلى اليقينِ المغلِّبِ إصابة الحق نفسه، وحينئذ يكون ما جرى في جنانه ونطق به لسانه هو الذي ظهر على لسانه فيندرجان في قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا).
وليس معناه أنه تمنّى أن يكون الحقُّ مع خصمه -كما قيل- تنازلاً؛ لأنَّ المجتهدَ لا يحلُّ له أنْ يتمنى أن يكون على الباطل.
فحظُّ العالم مِنْ هذا أنْ يقصدَ إظهارَ حكم الله تعالى لا مِنْ حيث ظهوره مِنْ نظره، وإنْ تشوَّفت النفسُ إلى مثله، ليشمله قولُه تعالى: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى).
*
وعن أحمد أنه رحلَ يطلب سنداً عالياً، فقيل له: يا أحمد: لله؟ فقال: "لله" عزيزٌ، لكنْ هوى صادفَ حقاً، معناه: قليلٌ، إشارة إلى قوله تعالى: (وقليل ما هم) ، ولقد كان من القليل، لكن تأدّبَ بقوله تعالى: (فلا تزكوا أنفسكم) وميلُ النفس عامٌّ، فالموفَّقُ مَنْ صادفتْ إرادتُه حقاً.
فحظُّ العالم مِنْ هذا التحرُّز عن رؤية النفس، ومجانبةُ الدعوى الصادقة، لتزكو نفسُه، وينشرح صدرُهُ، فينتظم في قوله تعالى: (قد أفلح من تزكى) .
رضوان الله عليهم أجمعين).
*
استخرجها وأخرجها
عبدالحكيم الأنيس
دبي: ٢٠ من ذي الحجة ١٤٣٩
______
إبراهيم الجعبري 640 - 732 هـ / 1242 - 1332م، هو إبراهيم بن عمر بن إبراهيم بن خليل الجعبري، أبو إسحاق. عالم بالقراءات، من فقهاء الشافعية، له نظم ونثر، ولد بقلعة جعبر (على الفرات في سورية، بين بالس والرقة) وتعلم بدمشق وبغداد، واستقر ببلد الخليل (في فلسطين) إلى أن مات. يقال له: شيخ الخليل، وقد يعرف بابن السراج، وكنيته في بغداد (تقي الدين) وفي غيرها (برهان الدين) له نحو مئة كتاب أكثرها مختصر. له:
(خلاصة الأبحاث) شرح منظومة له في القراءات.
و(شرح الشاطبية) المسمى (كنز المعاني شرح حرز الأماني ) في التجويد.
و(نزهة البررة في القراءات العشرة).
و(موعد الكرام ) مولد.
وموجز في (علوم الحديث).
و(حديقة الزهر) في عدد آي السور.
و(جميلة أرباب المقاصد) في رسم المصحف.